رواية "زينب وماري وياسمين" الصادرة عام 2012 للروائية العراقية ميسلون هادي، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نقرأ من أجواء الرواية:
أنت هنا
قراءة كتاب زينب وماري وياسمين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
زينب وماري وياسمين
الصفحة رقم: 6
ينتهي الحلم بجوراب أسود· عليه نقش مطرز يغطي الشامة السوداء قرب الإصبع الصغير الذي لدغته العقرب ذات يوم·· والقدم البيضاء هي السبب· كل ذلك يجب أن يغطى عندما تذهب أمي إلى الضريح··· لا تمحو رائحتها من أنفي سوى رائحة الضريح التي تشبه رائحة القبر الآن··· قبل الذهاب إلى هناك كنت أنتظرها على حافة الطرمة التي تفصل صبة الباب عن أرض صغيرة فيها شجرة نارنج وحيدة تجاور سياج البيت·· ولم تكن قدماي تستطيعان ملامسة الأرض البعيدة، حتى وإن ارتديت الحذاء الأبيض ذا النعل السميك أو مططت رجلي إلى أقصى المسافة الواقعة بين الأرض والصبة·· لا أتذكر أول مرة لامست فيها قدمي الأرض، ولكني أتذكر أول مرة دخل الخروف إلى بيتنا الملئ بالذباب·· علي أن أعرف ماهذا الحيوان·· إنه يبكي·· تعال·· تعال·· تعال·· هشششششششش·· لا تخف تعال· تعال·· فنظر إلي لزمن طويل وأنا في جلوس مستمر·· من الثالث الابتدائي حتى السادس الابتدائي··· كتابي في يدي ورجلي تزداد طولاً··· أراقبه مربوطاً بالحبل إلى جذع النخلة ويأكل باستمرار·· أحياناً يبرك على الأرض ويضع رأسه بين قائمتيه وهو يبكي، ولكنه كان يقفز ويفز فور أن يراني·· تتعثر رجله بالحبل المرتخي قبل أن يستوي واقفاً·· هل يرحب بي أم يريد ماء؟·· هل يفكر ويحلم ويحزن مثلما يأكل ويشرب وينام؟·· أجرب أن أختبره حول ذلك، فأقف فجأة·· يكش صوفه قليلاً كما لو أن جسمه يقشعر·· أرجع فأجلس على الطرمة فيخفض رأسه المرفوع ويعود الذباب إلى مكانه حول عينيه الدامعتين·· أصرخ في وجهه فينظر إلي ببرود وكأنه لا يأبه بي ولا يهابني ولا يعرف ماذا أريد·· وبدون أن أفك حبله أركض فيتبعني قليلاً ولا يصل إلى المكان الصحيح أبداً، لأنه يتوقف فجأة عندما يصبح الحبل مشدوداً، حتى وإن كان ينوي الابتعاد·· إذن الحبل هو السبب·· يجب أن أفك حبل هذا المسكين لكي أعرف هل تتصرف الماشية مثل البشر؟·· أو هل تشاور عقلها أحياناً؟ أو تحب أحداً ما·· وما كنت أتوقع مثل هذه النتيجة عندما اقتربت منه واكتشفت أن الانشوطة واسعة ويمكنه إخراج رأسه منها لو أراد، ولكن كيف يفعل ذلك وهو من ذوات الأربع·· رجلاه ويداه في الأرض؟ يحتاج إلى مساعدة أحد بالتأكيد·· غرزت أصابعي في الصوف وأمسكت به من الذؤابات البنية الموجودة حول عنقه ورفعت الحبل عن رأسه ووقفت أنظر إليه·· ابتسمت له للتعبير عن الصنيع الذي فعلته للتو·· ولكنه لم يبتسم، بل نظر إلي للحظة واحدة فقط ثم انطلق بعدها يركض خلفي إلى داخل البيت حتى وصلت السلم وأنا أصرخ· حاول صعوده فتزحلقت حوافره عليه بصوت مسموع، وظل يتزحلق على الدرجة الأولى مرات عدة قبل أن يستوي واقفاً وهو يصيح خلفي في الطابق السفلي·· لم أتوقعه سريعاً إلى هذا الحد·· وواصلت صراخي خوفاً من صعوده خلفي على الدرج، وبعد قليل رميت الحبل من يدي وجاءت أمي لتعيده إلى مكانه·· بعد أيام كنت واقفة أصلي فرأيت من الشباك رأسه محزوزاً من العنق ودمه مختلط بذؤابات الصوف البنية ومرمي فوق مكان جلوسي في الطرمة· بقيت أبكي طوال العيد، ولم أستطع أن أجلس في ذلك المكان بعد ذلك أبداً، ولا أن آكل اللحم إلا بعد فترة طويلة· كان فخذه يواجهني كلما فتحت باب المجمدة·· عرقوبه إلى أعلى خارجاً من كيس أصفر مكتوب عليه (أهلاً وسهلاً)·· فأين هو الآن؟
كنا نعبر الحي مشياً من أجل الوصول إلى الشط·· وكان علينا عبور النهر أيضاً من أجل الوصول إلى الضريح، وعندما نصل بابه تنصحني أمي بالسلام عليه ثم خلع حذائي عند رجل يلتقطها بعصا طويلة جداً ويضعها على الرف· خمسة وعشرون على الأرض·· وبابوج أمي مقلوب في كل المرات قبل أن يرفعه الكشوان بعصاه·· فهيا تحركي·· لماذا توقفت؟ ما أصعب تعديل الأحذية التي فوق الرفوف ثم عدها·· تسحبني أمي كل مرة ونروح نمشي على الأرض الباردة اللزجة للحضرة باتجاه القفص الذي تنبعث منه رائحة ماء قديم·· هناك شممت بخار الموت لأول مرة، وهناك جربت شعور الخوف الكبير لأول مرة· كنت نحيفة كالعصفور وحولي رجال أقوياء قد يقتلونني في أي لحظة·· بعضهم يقف أمام قدور ضخمة يغلي فيها الحساء، وأخشى الاقتراب كثيراً منها لئلا أسقط فيها كما سقط الخروف في قدر خالتي زمان· (زمان) كانت تتذوق حساءه بين الحين والآخر وهي تخوط القدر بمغرفة كبيرة تشبه الرفش· هل يعقل أن هذه هي نفسها المرأة التي تقول بيبي صبيحة إنها تمردت عند المراهقة وذهبت للرقص في فرقة قمر خانم؟ حدث ذلك بعدما جاءت إلى بغداد ومعها أخوالي الصغار وأمي زينب وخالتي زمان، فلم تجد قوتاً لهم لأيام طويلة بحثت فيها بين المزابل حتى وصلت إلى بيت اليهودية راشيل··
حكاية من زمن السبعينيات روتها لي بيبي صبيحة وكادت أن تنتهي نهاية سعيدة، لولا أن اعترضت أمك زينب، كما تقول، على عمل زمان في فرقة للرقص الشعبي، وثارت على تلك الفكرة المخزية التي قالت إنها تحط من قدرنا، فلم يغادرنا الجوع إلا بعد أن هدنا النحول· يا ابنتي·· فيها صالح كما تقول أمك زينب· لأن مدير فرقة الرشيد للفنون الشعبية توسط لدى المدير العام لكي يعين خالك سعيد عاملاً من عمال الإضاءة·· معظم عمال الإضاءة كانوا من الواسطات·· وبعضهم كان أمياً، لكن سعيد السبع سرعان ما أصبح لا غنى عنه وعن خدماته حتى في أيام العطل والاحتفـالات الوطنية والجمـاهيريـة·· فقد تعلّم العزف على آلة النـاي في أوقات الفراغ، وراح يدندن أيضاً على آلتي العود والكيتار ما بين البروفة والأخرى·· وكان يستطيع رفع الأذان في بعض المسرحيات التي تتطلب ذلك، أو ينادي على ضيوف الملك بملء صوته الجهوري الذي يماثل صوت عز الدين طابو·· وبفضل جارنا الذي كان عضواً في الفرقـة القومية، واسمه صالح، كان يساعد في بعض أعمال النجارة لديكورات الفرقة، فكان ينقل لنا ما يحدث في قاعة الخلد أو المسرح الوطني·