منذُ ولادتِيَ وأوائلِ سنينِ طفولتِيَ كانَ أكثرُ الأسئلةِ تَحييراً وإحراجاً لِيَ هو ما اسْمِيَ وأصْلِيَ، أيْ اسْمُ قبيلتِيَ.
أنت هنا
قراءة كتاب الرفيقان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
كان لِلطفلِ "حَمَد" من العمرِ الثلاثةُ أو الأربعةُ سنينَ تقريباً عندَما حدثتْ أمامَهُ أوّلُ أخطرِ مواجهةٍ عنيفةٍ في عمرهِ آنذاكَ. ثعبانٌ، أحْمرٌ سَميكٌ وقصيرُ الطولِ رشيقٌ، "يُدَحْرِجُ" نفسَهُ أوّلاً في فناءِ البيتِ الخلفيِّ قبلَ أنْ ترصدَهُ الوالدةُ "أم جاسر" وتستنفرَ كلَّ قواها الجسميةِ والعصبيةِ والصّوتيةِ. ربَّما أغرى الثعبانَ للقدومِ هناكَ شكلُ ورائحةُ الكتاكيتِ والفراخِ اليانعةِ أو حتى الفئرانِ التي تكونُ قد أضناها الانتظارُ في جحورِها وجاءتْ تبحثُ عن حبوبِ السّمسمِ واللوزِ والجوزِ المقشورةِ. أجبرتهُ "أم جاسر" على الانكفاءِ داخلَ أحدِ الشقوقِ العريضةِ الموحشةِ في ذلكَ الجدارِ القديمِ الذي يفصلُ البيتَ عن الجيرانِ والمعمولِ من الطينِ وحجارةٍ من الجبلِ. سَمِعَ أحدُ الجيرانِ، السّيدُ "أبو هَبْهَبْ"، صوتَ الصّراخِ والعويلِ و"الغثبرةِ" من صوتِ نساءٍ وصراخِ أطفالٍ، ومن الجيرانِ فيما بعدُ، وأتى ومعهُ "عَتَلَةٌ" حديديةٌ طويلةٌ ومعقوفةٌ عندَ طرفِها. قام السّيدُ "أبو هَبْهَبْ" بإغمادِ طرفِ العتلةِ في جُحرِ ذلكَ الثعبانِ الرهيبِ المتوحشِ وقتلَ ذلكَ الثعبانَ وجعلهُ يتمرّغُ بدمهِ أمامَ حشدٍ من الجيرانِ الذين تنفسوا الصّعداءَ لِخلاصِهمْ من أحدِ "الشياطينِ" المستوطنةِ في الجوارِ الآمنِ لكلٍّ منهُمْ. حقّاً كان ذلكَ البيتُ المتواضعُ مثلَ يَختِ سيِّدِنا نوحِ (عليهِ السّلامُ) يَجمعُ بينَ الكثيرِ من الحيواناتِ والقوارضِ في توليفةٍ غريبةٍ فيها من السّرورِ الكثيرُ ولا تَخلو دائماً من المفاجآتِ، من مثلِ قصةِ ذلكَ الثعبانِ المؤثّرةِ!.
في سنٍّ مبكرةٍ جداً من العمرِ عاصرَ الطفلُ "حمد" أوّلَ حربٍ كبيرةٍ في حياتهِ. قامتْ "ثلاثُ دولٍ" قويةٍ على المستوى الإقليميِّ والدوليِّ بِمهاجَمةِ دولةٍ واحدةٍ ضعيفةٍ شقيقةٍ، بل شديدةُ الضَّعفِ على المستوياتِ الإقليميةِ والدوليةِ والداخليةِ، وعلى حدٍّ سواءَ. هوجِمتْ هذه الدولةُ بقوّةٍ عاتيةٍ من البرِّ والبحرِ والجوِّ في الوقتِ الذي لَمْ يكن لديها من تلكَ الأسلحةِ الثلاثةِ من الحدِّ الأدنى اللازمِ للدفاعِ عن النفسِ. اضطُرَّ "الكفُّ للتصدي للسكينِ الحادِّ" و"كرةُ العينِ لتواجهَ الرصاصةَ" في مُحاولةٍ يائسةٍ للحفاظِ على الحياةِ والكرامةِ، في آنٍ معاً؛ وحصلتْ فيما بعدُ معجزةُ الانتصارِ، انتصارُ إرادةِ الشعبِ المدوّي. يتذكَّرُ "حمد" الطفلُ رؤيةَ الطائراتِ تعبرُ أجواءَ المنطقةِ، معظمُها قادمٌ من الشرقِ ومتجهٌ إلى الغربِ. كان مع أصحابهِ وإخوانهِ في الحقولِ والسّاحاتِ يُمارسونَ تَمارينَ "تعبويةً" حيةً عن كيفيةِ الاختباءِ والهربِ من الطائراتِ التي تدخلُ الأجواءَ؛ طائراتٌ من النوعِ القديمِ والبطيئةِ السّرعةِ نسبياً. لَمْ يكونوا في ذلكَ الوقتِ يعرفونَ أنَّ تلكَ الطائراتِ تستخدمُ لنقلِ شخصياتٍ دوليةٍ، ربَّما تابعينَ للأممِ المتحدةِ، جاءوا لِمحاولةِ احتواءِ الأزمةِ وحصرِها وامتصاصِ نقمةِ أهلِ البلادِ أو ربَّما "لشرعنةِ" النتائجِ الوخيمةِ للحربِ. كان الأولادُ في كلِّ مرّةٍ يلمحونَ فيها طائرةً أو يسمعونَ صوتَها يُهرعونَ إلى مغاراتٍ أو شقوقٍ في الصّخرِ كبيرةٍ، أو حتى إلى ظلالِ شجرِ التينِ والزيتونِ الصّغيرِ المزروعِ في الحقلِ. وبسببِ كثرةِ الطائراتِ أو الطلعاتِ الجويةِ والتي لَمْ تُهاجِمهُمْ أيَّةٌ منها قرّروا أنَّ تلكَ الطائراتِ "صديقةٌ" لَهُمْ وألغوا فكرةَ الهربِ والاختباءِ منها من رؤوسِهمْ، إلى انتظارِها بفارغِ الصّبرِ والتمتعِ برؤيتِها تطيرُ من فوقِهمْ.
في ذلكَ الوقتِ ومنذُ باكورةِ نعومةِ الأظفارِ كانت العائلةُ كلُّها تعملُ في الحقولِ الصّغيرةِ المساحةِ والوعرةِ، يقومُ الصّغارُ مع الكبارِ بتنظيفِها مثلاً من الحجارةِ والنباتاتِ الضارّةِ والتي غالباً ما تكون شوكيةً مزعجةً مؤذيةً. يتلاهونَ بعد ذلكَ بِحرقِ النباتاتِ الضارّةِ من "القوصِ والشَّبرقِ والخُرفيشِ والنَّتْشِ والمَيْتَنانِ والقثِّ-حِمارِ والأَرْثِ ...." (أسْماءٌ مَحليةٌ لنباتاتٍ بريةٍ ضارةٍ بالمَحصولِ معظمُها شوكيٌّ) أو جرِّها ونقلِها إلى أماكنَ بعيدةٍ عن النباتاتِ الطيبةِ. وما أنْ يتقدّمَ عمرُ الطفولةِ بِهِمْ قليلاً حتى يصبحونَ يقومونَ بوظائفِ حراسةِ الحقولِ خاصةً الصّيفيةِ منها وأشجارِ الفاكهةِ من مثلِ التينِ والتفاحِ السُّكَّريِّ الصّغيرِ الحجمِ. يشاركُ الأطفالُ في حِمايةِ المَحاصيلِ من الطيورِ والحيواناتِ البريةِ من مثلِ الثعالبِ وأبي الحصينِ وحتى من الضباعِ الشديدةِ الفتكِ والرهبةِ خاصةً عندَما تكونُ تتضوّرُ جوعاً. كانت الحراسةُ تلكَ ضروريةً حتى لا يتمكّنَ ولو واحدٌ من الطيورِ من التسلّلِ إلى مزرعةِ الخيارِ (أو القثاءِ) مثلاً أو شجرةِ التينِ ويقومَ بِ"تنقيرِ" الثمارِ (بِمنقارهِ) تاركاً وراءَهُ مَحصولاً غيرَ صالِحٍ للتسويقِ. لن يقبلَ المستهلكُ بشرائِها، وأقلَّ نعْتٍ يُمكنُ أنْ يتلفَّظَ المستهلكُ بهِ في تلكَ الحالِ هو أنَّ ثعباناً سامّاً نالَ منها وسَمَّمَها!. الويلُ للأولادِ إنْ جاءَ "أبو جاسر" أو الأخُ الأكبرُ ووجدَ ثَمرةً "قثائيةً" واحدةً وقد نَقَرَها عصفورٌ أو اعتدتْ عليها إحدى الزواحفِ من سلاحفَ أو سحالي أو "حِرذانٍ" أو "حِرباواتٍ" وما إلى ذلكَ. كان ألدُّ أعداءِ ثِمارِ شجرةِ التينِ ومزرعةِ القثائياتِ، على حدٍّ سواءَ، طائراً يطلقُ عليهِ مَحلياً اسمُ "الزّاغِ" (اسمٌ مَحليٌّ وجَمْعٌ لكلمةِ "زاغَة") شبيهٌ لونهُ وشكلُهُ بالغرابِ الأسودِ صغيرِ الحجمِ إلا أنَّ لَحمَهُ مستساغُ الأكلِ وطريٌّ، بعدَ صيدهِ وذبْحهِ ونتفِ ريشهِ وطهيهِ طبعاً. كان ذلكَ الطائرُ يظهرُ على شكلِ أسرابٍ كبيرةٍ جداً قد يصلُ تعدادُها إلى الآلافِ؛ تُصدِرُ أصواتاً فيها شيءٌ من "النغمِ والإيقاعِ" الموسيقيينِ إلا أنَّ ذلكَ الصّوتَ كان نذيرَ شؤمٍ على مَحصولِ التينِ أو القثائياتِ أو البَنْدورةِ (الطماطم). ما أنْ يقومَ سربٌ منها، ومهما كانَ صغيراً حجمُهُ، بِمهاجِمةِ موقعٍ مثمرٍ حتى يَخلِفَ وراءَهُ أشبهَ ما يكونُ بِمجزرةٍ فاكهيةٍ أو "خضرواتيةٍ" مروعةٍ لا تُنسى بسهولةٍ من الذاكرةِ.