في البدء نود أن نؤكد على أنَّ لـ"بيت الحكمة العباسي" جذوره التي تضرب في أعماق التاريخ، أي في تراث العراق القديم أيام السومريين والبابليين والآشوريين هنا في بلاد بابل وفي العصر البابلي القديم، أي ابتداءاً ومن حدود عام 2000 ق.م.
قراءة كتاب بيت الحكمة العباسي ودوره في ظهور مراكز الحكمة في العالم الاسلامي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
بيت الحكمة العباسي ودوره في ظهور مراكز الحكمة في العالم الاسلامي
الصفحة رقم: 8
ولمَّا غزا العرب بلاد الروم، واستولوا على بعضها، بذلوا عناية خاصة بعلوم القوم ومعارفهم، فحافظوا على الكتب التي وقعت بأيديهم، فلم يفعلوا بها ما فعله الإسبان عندما استولوا على نفائس الكتب العربية في الأندلس، ولا ما فعله التتار والمغول عندما هاجموا البلاد الإسلامية في الشرق، فإنَّ العرب حرصوا كلَّ الحرص على ما وقع بأيديهم منها، وخاصةً كتب الحكمة، وعنوا بها عنايةً فائقة.
ولمَّا فتحوا مدينتي عمورية وأنقرة أمروا بالمُحافظة على مكاتبها، وانتدبوا العلماء والتراجمة من بغداد لأختيار الكتب القيِّمة منها، والتي يندر وجودها عند غيرهم من الأمم، فإختاروا الكتب النفيسة النادرة في الطب والفلسفة والفلك، ونقلوها إلى بغداد، وولَّوا أمر هذه الكتب يوحنَّا بن ماسويه (المتوفى سنة 243هـ/857م) أكبر أطباءعصره، وجعلوا له من يساعده بترجمتها(19).
وفي أيامه نقل الحجَّاج بن مطر كتاب إقليدس وهو أول نقل كان لهذا الكتاب إلى العربية، وتُسمَّى الترجمة الهارونية، تمييزاً لها عن الترجمة المأمونية.
وأهتم يحيى بن خالد البرمكي بترجمة المجسطي إلى العربية، فقام بذلك عدَّة علماء، ولم يتوفقوا بترجمته كما يجب، فعُرضت على عالمين من علماء بيت الحكمة وهما أبو حسان وسَلَم فصححا الترجمة، وفسَّرا ما غمض من المصطلحات، فكانت ترجمة حسنة(20).
وكان منكه الهندي – طبيب الخليفة هارون الرشيد – ينقل الكتب من الهندية إلى الفارسية والعربية، ونقل عدَّة كتب تبحث في الطب على مذهب أهل الهند. ونقل ابن دهن (الذي كان يُشرف على بيمارستان البرامكة عدَّة كتب في الطب)(21).
ولمَّا أفضت الخلافة إلى عبد الله المأمون (198 – 218هـ/813 – 833م) وجَّه همَّه إلى الترجمة والتأليف، فتُرجمت له كتب الحكمة المختلفة. وكان كثير الإهتمام بها، خاصةً في كتب الفلسفة والمنطق، ذلك لأنَّه كان يرى رأي المعتزلة، وهم من أكبر مؤيدي الرأي، وتحكيم العقل في الأمور الدينية، وكان المأمون واسع العلم، حرَّ الفكر، يميل إلى القياس، لذا كان يرغب بترجمة كتب المنطق والفلسفة لأنَّه يجد له منهما خير معين على تحكيم العقل، فتُرجمت معظم كتب أرسطو – على عهده – وتولَّد عند المسلمين علم الكلام.
ووصف القاضي أبو القاسم أحمد بن صاعد الأندلسي ما كانت عليه الحركة العلمية في عصر المأمون فقال: "ثم لمَّا أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون، تمم ما بدأ به المنصور، فأقبل على طلب العلم في موضعه، وأستخرجه من معادنه، بفضل همَّته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فداخل ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب أفلاطون وأرسطاطاليس وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة، فإستخار لها مهرة التراجمة، وكلَّفهم إحكام ترجمتها، فتُرجمت له على غاية ما أمكن، ثمَّ حضَّ الناس على قراءتها، ورغَّبهم في تعلّمها، فنفقت سوق العلم في زمانه، وقامت دولة الحكمة في عصره، وتنافس أولوا النباهة في العلوم، لما كانوا يرون من احضائه لمنتحليها، وإختصاصه لمُقلِّديها، فكان يخلو بهم ويأنس بمناظراتهم ويلتذَّ بمذاكراتهم، فينالون عنده المنزلة الرفيعة، والمراتب السنيِّة، وكذلك كانت سيرته مع سائر العلماء والفقهاء والمُحدِّثين والمتكلمين، وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والنَسَب، فأتقن جماعة من ذميِّ الفنون والتعلُّم في أيامه كثيراً من أجزاء الفلسفة، وسنّوا لمن بعدهم منهاج الطلب، ومهدوا أصول الأدب، حتى كانت الدولة العباسية تُضاهي الدولة الرومية أيام أكتمالها، وزمان إجتماع شملها"(22).