قبل الولوج في حياة إبراهيم طوقان وشعره، لا بد من الحديث عن أحوال الوطن العربي عامة وعن فلسطين خاصة، لمعرفة تاريخ المرحلة التي عاشها الشاعر إبراهيم طوقان، وما كان فيها من أحداث جسيمة، والمؤثرات التي تفاعل معها الأدباء والشعراء.
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم طوقان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

إبراهيم طوقان
الصفحة رقم: 4
كانت (المدرسة الرشادية الغربية) حيث تلقّى إبراهيم دروسه الابتدائية تنهج في تعليم اللغة العربية نهجاً حديثاً لم يكن مألوفاً في مدارس نابلس في العهد التركي. وذلك بفضل بعض المدرِّسين النابلسيين الذين تخرجوا في الأزهر، وتأثروا في مصر بالحركة الشعرية والأدبية التي كان يرفع لواءها شوقي وحافظ وغيرهما من شعراء مصر وأدبائها. هؤلاء المدرِّسون، أشاعوا في المدرسة روح الشعر والأدب الحديثة، وأسمعوا الطلاب للمرة الأولى في حياتهم الدراسية قصائد شوقي وحافظ ومطران وغيرهم، وفتحوا أذهانهم عل أسلوب إنشائي حديث، فيه رونق، وفيه حياة؛ يختلف اختلافاً كبيراً عن ذلك الأسلوب القديم الذي كان يُنتهج في المدارس في نابلس، والذي لم يكن ليخرج عن كونه أسلوباً تقليدياً عقيماً، لا تأثير له، ولا غناء فيه.
من هؤلاء المدرِّسين المجددين، المرحوم الشيخ إبراهيم أبو الهدى الخماش؛ وكان جريئاً صريحاً، ذا نزعة عربية صميمة، ومبادئ وطنية قومية، يجهر بها ويبثها في النفوس عن طريق خطبه وتدريسه ومجالسه؛ وذلك في عهد كان الجهر فيه بمثل تلك المبادئ، يوفي بأهله على المهالك. وقد التحق فيما بعد بالثورة العربية، تحت لواء المغفور له الملك فيصل.
ومن هؤلاء المدرسين أيضاً، صاحب الفضيلة، الشيخ فهمي أفندي هاشم قاضي قضاة شرقي الأردن في وقتٍ مضى.
أمضى إبراهيم أربع سنوات في هذه المدرسة، هي سنوات الحرب العظمى؛ وانتقل على أثر الاحتلال الإنكليزي مباشرة، إلى مدرسة المطران في القدس، وله من العمر أربعة عشر عاماً.
وهنا نعرض لشخصية تعرف بها إبراهيم في القدس، فكان لها انطباع في نفسه في ذلك الحين، تلك هي شخصية المرحوم الأستاذ نخلة زريق، وكان هذا متأثراً باليازجيين، واسع الاطلاع على الآداب الإسلامية العربية، شديد التعصب للغة، شديد الوطأة على كل عربي متفرنج يتهاون في لغته أو عربيّته؛ وكان ذا شخصية قومية، لا بد من أن تترك في أعماق من تعرف بها، أثراً منها.
كان المرحوم نخلة زريق مدرِّساً للغة العربية في (الكلية الإنكليزية) في القدس؛ فتح عيون طلابه على كنوز الشعر العربي، وحبّبها إليهم؛ ولقد كان إبراهيم، وهو في مدرسة (المطران) يأخذ من شقيقه أحمد – وكان طالباً في الكلية الإنكليزية – منتخبات الشعر القديم والحديث، مما يختاره المرحوم نخلة زريق لطلابه، فيستظهرها جميعاً؛ وعن طريق أحمد؛ تعرّف إبراهيم بذلك المدرس الأديب، فكانا يزورانه معاً في بيته الذي كان محجة العلماء والأدباء في القدس؛ ويصغي إليه وهو يتدفق في حديثه عن الأدب والشعر، والعرب والعروبة.. مما كان له شأن في إيقاظ وعي إبراهيم على مؤثرات أدبية وقومية أخرى.
وإذ أتم أحمد دراسته في الكلية الإنكليزية، وتوجه إلى الجامعة الأميركية في بيروت، ظلت تلك الأسباب موصولة بين إبراهيم وبين المرحوم نخلة زريق، ولكن لمدة قصيرة، إذ توفي الثاني سنة 1920.
في هذه الفترة من الزمن، كان إبراهيم يحاول أن يقول الشعر الصحيح، فتلتوي عليه مسالكه، ولا يفلح فيه، إذ لم يكن قد درس علم العروض بعد.
وفي العطلة المدرسية، يعود أحمد من بيروت، ويلتقي الشقيقان في نابلس وقد حمل أحمد لإبراهيم، ما حصله هناك من علم العروض، ويشرح له تفاعيل الأبحر الشعرية ويوقفه على أصول القوافي؛ فيستوعب الشاعر المنتظر كل أولئك جميعاً، وكأنما فتح له فتح في دنيا الشِّعر التي كان يتشوق إليها ويعقد آماله ومطامحه عليها.
وعلى أثر ذلك، يبدأ إبراهيم يقرزم الشعر قرزمة، ويقوله في المناسبات التي تعرض له، والأحوال التي تمر عليه في مدرسة المطران مما يوحي به الجو المدرسي، بما فيه من جد وهزل.
وفي مجموعة أشعاره التي نظمها خلال عاميه الأخيرين في مدرسة المطران، نحس بالشاعرية الكامنة التي كانت تأخذ عدتها، لتستعلن بعد حين قصير في شعره القوي، كما نلمس تلك الروح الوطنية المشتعلة التي أشربها منذ الصغر، والتي أذابها فيما بعد، في شعره الوطني.
وفي سنة 1923 نشر إبراهيم لأول مرة إحدى قصائده، ويقول إبراهيم بهذا الشأن:
«... لعلها أول قصيدة نشرت لي في صحيفة. رحم الله عمي الحاج حافظ! قرأها، فأبدى إعجابه بها (على سبيل التشجيع) وطلب إليّ أن أبيّضها لينشرها في الجريدة! في الجريدة؟ شيء يطيش له العقل؛ فأسرعت إلى تلبية طلبه، وعنيت بكتابتها قيراطاً، وبوضع اسمي تحتها ثلاثة وعشرين قيراطاً... ثم أتيت بها إليه، قال رحمه الله: «أتضع اسمك هكذا: إبراهيم طوقان؟ لا يا بني! يجب أن تضع اسم الوالد أيضاً، إبراهيم عبدالفتاح طوقان، اعترافاً بفضله عليك، وبرّه بك...» أدب أدّبني به عمي رحمه الله، لا أعلم أني وقّعت اسمي بعد ذلك إلا تذكرت قوله وعملت به في كل أمر ذي بال أردت نشره».

