قبل الولوج في حياة إبراهيم طوقان وشعره، لا بد من الحديث عن أحوال الوطن العربي عامة وعن فلسطين خاصة، لمعرفة تاريخ المرحلة التي عاشها الشاعر إبراهيم طوقان، وما كان فيها من أحداث جسيمة، والمؤثرات التي تفاعل معها الأدباء والشعراء.
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم طوقان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
إبراهيم طوقان
الصفحة رقم: 6
«قسوة وعنف، أفاداني أن أكون مع نفسي بعدئذ قاسياً عنيفاً، أمزق القصيدة حين أشعر بالتكلف يدب فيها، وأن أقف موقف الناقد الهدّام، أحطم شعري بيدي، أو أبديه وأنا راضٍ عنه، ضامن رضا قارئه أو سامعه. أحمد وسعيد ليسا من الزبانية؛ إنهما ملكان كريمان! جزاهما الله عني خيراً».
ونعود إلى ما بدأنا به من الحديث عن أيام إبراهيم في بيروت فنقول: مضت عليه سنوات ثلاث في الجامعة، بلغ في نهايتها الثانية والعشرين، وقد قعد به المرض خلالها عن إتمام دراسته في الصف الأول العلمي، فانتقل إلى نابلس، ثم عاد في العام الذي تلا ذلك إلى الجامعة. وكان في هذه السنوات الثلاث لا ينقطع عن قول الشعر. وفي سنة 1925 نشرت له جريدة (الشورى) في مصر نشيداً وطنياً لتحية المجاهد الأمير عبدالكريم الريفي. فلما أطلع الشاعر الأستاذ خير الدين الزركلي على النشيد قال: «إن صدق ظني، فإن صاحب هذا النشيد سيكون شاعر فلسطين».
ومن عجب، أن يظل قلب إبراهيم خالياً من المرأة حتى ذلك الحين، ولقد كان أصدقاؤه في الجامعة يعجبون لذلك ويقولون له على سبيل المزاح: «أنت شاعر ولكن بلا شعور، أين وحي المرأة في شعرك؟».
في نهاية تلك السنوات الثلاث، بلغ إبراهيم الثانية والعشرين كما ذكرنا من قبل. وهنا مسّ الحب قلبه.. ولكن هل كان مس ذلك الحب رفيقاً رحيماً؟ كلا؛ بل كان مساً عنيفاً ملهباً أشعل بروحه وأيقظ حسّه، وأرهف نفسه.
ففي سنة 1926، طلعت في الجامعة في بيروت، فتنة تمثلت في صورة فتاة فلسطينية طالبة هناك، فأحيت قلوباً وسحقت قلوباً.. وتورط إبراهيم، ودخل المعركة، وابتلى حسنات وسيئات، أما السيئات، فليس هذا بموضع تدوينها، وأما الحسنات، فتنحصر في الطريق الأدبي الجديد الذي نهجه، والاستعداد الكبير للسير في هذا الطريق.
صار قوي الملاحظة، حاضر العاطفة، متحفز الأعصاب، صار كثير المطالعة، صياداً للمعاني، بسيط العبارات، سهل الفهم، مصيباً.
تلك هي حسنات ذلك الحب، على حد تعبيره.
ونظم في فتاته قصيدته (في المكتبة)، ونشرت القصيدة في إحدى الصحف في بيروت، فنطقت بألسنة الكثيرين من الطلاب والأساتذة أيضاً..
ومنذ ذلك الحين، أخذ إبراهيم يضرب على قيثار الغزل، فيطرب سماعه، ويعجب قراءه. وقد أحبته فتاته بمقدار ما أحبها، ثم ضرب الدهر بينهما، فكانت نهاية حبه مأساة، خلفت في قلب الشاعر جرحاً، كان يندمل حيناً، وتنكأه الذكرى حيناً آخر، فينعكس ذلك كله في شعره، كما تنعكس صورة على صفحة المرآة المصقولة.
نكتفي بهذا القدر من قصة ذلك الحب، الذي كان له أكبر الأثر في إرهاف حسه، والسمو بشاعريته إلى سماء الشعر الصادق، الذي ينبثق من ذات النفس، وينبعث من أعماق الروح.
ونلتفت الآن إلى بعض الأجواء الأخرى، التي كانت تحيط بإبراهيم في أعوامه التي قضاها طالباً في الجامعة.
لقد احتضنت إبراهيم في الجامعة وخارجها، بيئة شعرية أدبية لم تكن لتحتضنه لو لم يكن في بيروت. أما في الجامعة، فقد كان هناك رعيل من أقرانه الطلاب، امتاز بصبغته الشعرية، وتعاطيه لقول الشعر الجزل. من ذلك الرعيل كان عمر فروخ (صريع الغواني) وحافظ جميل (أبو النواس) ووجيه بارودي (ديك الجن) وإبراهيم (العباس بن الأحنف). وكان تجاوب الذوق والمشرب قد وصل بين هؤلاء بأسباب المحبة والأخوة. وكانت تجري بين حافظ ووجيه وإبراهيم، مساجلات شعرية عديدة، تناقلها الطلاب وأحبوها، غير أن هذه المساجلات لم تكن لتخرج عما توحي به طبيعة الشباب الملتهب، المندفع وراء الحياة..
هذا في الجامعة، وأما خارجها، فقد كانت هنالك مجالس الأدب العالي والشعر الرفيع، وكلها تفتح لإبراهيم صدرها، وتوليه من عنايتها واهتمامها، وتعقد بينه وبين أصحابها صلة الود. وحسبي أن أذكر من أصحاب تلك المجالس الأدبية الرفيعة المرحوم الشيخ أمين تقي الدين والمرحوم الأستاذ جبر ضومط، والشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير).