قبل الولوج في حياة إبراهيم طوقان وشعره، لا بد من الحديث عن أحوال الوطن العربي عامة وعن فلسطين خاصة، لمعرفة تاريخ المرحلة التي عاشها الشاعر إبراهيم طوقان، وما كان فيها من أحداث جسيمة، والمؤثرات التي تفاعل معها الأدباء والشعراء.
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم طوقان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

إبراهيم طوقان
الصفحة رقم: 5
ولقد كان من أكبر الأسباب التي أعانته على أن يقول الشعر فيجيده بالقياس إلى صغر سنِّه، هو كثرة حفظه للشعر المنتخب، واحتفاله الكبير بالقرآن الكريم، فقد كان كثير التلاوة له، عميق النظر فيه. وأما ذلك الاحتفال منه بكتاب الله، فإنه يرجع بدواعيه وأسبابه إلى بيئته في البيت، يغنى أصحابها بتنشئة أطفالهم على تلاوته والتشبع بروحه. ولم ينفك إبراهيم منذ صغره يقرأ القرآن، ويطيل التأمل فيه، حتى أصبح له ذلك ديدناً، لا يعوقه عنه عائق، ولا يصرفه عنه تقلبه في مختلف معاهد العلم الأجنبية فيما بعد. ولم تكن تلاوة القرآن الكريم تلاوة سطحية عابرة، بل كان يتجه إليه بقلبه وروحه، ويحس له في نفسه وقعاً عجيباً، وأثراً بعيداً، فيهزه إعجازه هزاً، وتفعل فيه بلاغته فعل السحر، ويستولي عليه خشوع عميق، يصرفه عن كل ما يحيط به.
انتهى إبراهيم من تحصيله في مدرسة المطران، سنة 1922-1923 وانتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت. وهنا تبدأ أخصب مراحل حياته الدراسية، أو أكثرها ألواناً.
فها هو في بيروت، يظله أفق أدبي واسع لا عهد له بمثله في فلسطين. هنالك الأدباء والشعراء، وهنالك الدنيا براقة خلوب.. وهنالك بعد ذلك، السهم الذي كان ينتظره، منجذباً عن وتره إلى آخر منزع؛ يتربص به الفرص، لينغذه في قلبه الذي لم يكن قد مسّه الحب بعد..
في هذه الجامعة، يعرفه شقيقه أحمد بأحد أصدقائه من الطلاب، وهو (سعيد تقي الدين)؛ وسعيد، من أولئك الذين يتذوقون الشعر، ويميزون بين صحيحه وزائفه تمييزاً صائباً؛ فيلمح هذا في شعر إبراهيم بارقات وصوراً شعرية، تلوح من هنا، وتستتر من هناك. وتساند أحمد وصديقه سعيد، وبدءا يوجهان إبراهيم التوجيه الصحيح في عوالم الشعر ودنياواته الرحيبة الجميلة.
وفي عامه الدراسي الثاني في الجامعة، وكانت شاعريته قد بدأت تزخر وتمتلئ، لتنبثق عن معينها بعد أن أخذت عدتها من هذه الصناعة الدقيقة، صناعة الشعر، نظم إبراهيم قصيدته في الممرضات، أو (ملائكة الرحمة)، فكانت أول قصيدة لفتت إليه الأنظار في لبنان.
ففي هذا العام (1924) مرض إبراهيم، واضطره ذلك إلى العودة إلى نابلس، قبل انتهاء الفصل الدراسي الأول. وفي أثناء مرضه نظم تلك القصيدة، ونشرها في جريدة (المعرض) التي كانت تصدر يومئذ في بيروت فإذا العيون تتطلع إلى هذا الشاعر الناشئ، الطالب في الجامعة، وإذا بالصحف تتناقلها. نقلتها مجلة (سركيس) عن (المعرض) وعلقت عليها بقولها: «ولعله أول من نظم شعراً عربياً في هذا الموضوع». وطلبت القصيدة من قِبَل مجلة (التمدن) في الأرجنتين، وأهديت إليه المجلة سنة كاملة، وكان مما علقته عليها قولها: «ولو كان كل ما ينظمه شعراؤنا في هذا الباب من هذا النوع، لكان الشعر العربي في درجة عالية من القوة والفتوة» ونقلتها جرائد ومجلات أخرى، وكلها تطري الشاعر، وتشجعه.
أما هذه القصيدة، فهي وإن تكن قد قيلت في موضوع الممرضات، غير أن قسماً كبيراً منها، كان في وصف الحمام؛ تلك الطيور الوديعة، التي كان يغرم بها إبراهيم، ويعنى باقتنائها وتربيتها، أيام صباه. وتحدثني أمي، كيف كان وهو طفل ينجذب إلى هذا الطائر انجذاباً خاصاً، ويتأمله محوماً رائحاً غادياً؛ وكيف كان إبراهيم إذا وقف كل صباح ليغتسل على حوض الماء الذي يقوم في صحن الدار، أطال هناك الوقوف، مستغرقاً في تأمله لأسراب الحمام، وقد حفت بالماء تغتسل وتعبث بريشها، فلا يزال على وقفته تلك، إلى أن ينبهه والده إلى إبطائه على المدرسة.
وهكذا يمضي إبراهيم في طريق النظم، وكانت نشوة توفيقه في قصيدة (ملائكة الرحمة)، قد أفعمته بالزهو والخيلاء كما يقول، إلى أن تلقاه درساً أليماً، أوحي إليه يومئذ بقصيدة عنوانها: «عارضي نوحي بسجع» وفيها تنعكس حالته النفسية الثائرة، التي ترجع بأسبابها إلى الدرس الأليم الذي تلقاه.
يقول إبراهيم بهذا الصدد: «كنت قد توفقت في قصيدة ملائكة الرحمة، وسمعت كثيراً من كلمات الإعجاب بها؛ فخيل إليّ أن كل قصائدي في المستقبل، ستكون مثلها مدعاة للإعجاب! وأخذت في نظم قصيدة غزلية، وأنا مفعم بزهوي وخيلائي؛ وأخذت أغوص على المعاني، وأتفنن بالألفاظ!!. وكان يشرف على نشأتي الأدبية اثنان من الزبانية هما أخي أحمد، وسعيد تقي الدين، فهرعت إليهما لأسمع إعجابهما وأنتشي به، وتلوت عليهما القصيدة، وظفرت بالإعجاب!.. وتركاني، وعادا إليّ بعد قليل. قال أحمد: «أخي أنا لا أفهم القصيدة جيداً حين تتلى عليّ؛ أريد أن أقرأها بنفسي». فناولته القصيدة، ودنا رأس سعيد من رأس أحمد، وشرعا في قراءة صامتة، ثم كانت نظرات تبادلاها، أحسست منها بمؤامرة.. وإذا بالقصيدة تُمزَّق، وإذا بها تنسف في الهواء. قال أحمد: هذه قصيدة سخيفة المعنى، ركيكة المبنى؛ قال سعيد: ليس من الضروري أن تنظم كل يوم قصيدة! قال أحمد: كلها تكلف وحذلقة! قال سعيد ليهوِّن أثر الصدمة: لا بأس بها، لكنها لا شيء بالنسبة إلى قصيدة ملائكة الرحمة، اعمل كل سنة قصيدة مثل ملائكة الرحمة، وكفاك.. قال أحمد.. وقال سعيد... ولكن كان رأسي بين أقوالهما كأنه في دوار، ولم أتمالك عن البكاء، وتركتهما حانقاً ناقماً. وبعد ساعة كان سعيد فوق رأسي – وأنا لا أدري – يتلو أثر تلك الصدمة في قصيدتي: «عارضي نوحي بسجع». فاختطفها، وعاد إلي بها في الصباح، وعليها الجملة الآتية بقلم عمّه الشيخ أمين تقي الدين: «روح شاعرة، ليتها في غير معاني اليأس، فالشباب واليأس لا يلتقيان، أما النظم، فيبشر بمستقبل فيه مجيد».

