على مدى الأربعمائة إلى الستمئة سنة التي سبقت، شهدت معظم أجزاء الكرة الأرضية انتشار حضارة ومجتمعات تكرس الفكرة التي انطلقت من معظم أنحاء أوروبا والتي تعتبر التجارة والاستهلاك مصدرين أساسيين للعيش الكريم.
أنت هنا
قراءة كتاب الرأسمالية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الأول
بناء المستهلك
تعتبر ثورة المستهلك فصلاً غريباً في وصف التاريخ الاثني للجنس البشري لأنه، ولأول مرة في التاريخ، عمد تجمع بشري إلى تبني عنصر غير ديني في التغيير الاجتماعي، وسمح لهذا العنصر بتغيير كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية على أسس منهجية تحمل في حقيقتها استمرارية دائمة.
- غرانت ماكراكن، الحضارة والاستهلاك
رسالة التغيير في زماننا هي أن شكل السلعة يعتبر أمراً طبيعياً ولا مفر منه. وأنه يمكننا أن نعيش حياتنا بشكل جيد فقط (أو حتى أن نعيشها على الإطلاق) عبر شراءنا لسلع معينة. وهكذا تتشكل مصلحتنا الرئيسة في الوجود من قدرتنا على المناورة في التأهل لشراء مثل تلك السلع من السوق. كذلك، لقد تم تلقيننا بأن من الحق والعدل، كما هو مرسوم في الطبيعة الإنسانية وفي تعاليم الدين أن وسائل الحياة بكل أشكالها تتوفر لنا فقط على شكل سلع.. والأميركيون يعيشون في عالم تغلب عليه السلع، وتتولد فيه الحاجات وفقاً لمصالح السوق كما أنها لا يمكن تلبيتها إلا من خلال السوق.
- ستيفن فجيلمان، أوراق العنب
تعتبر حضارة الرأسمالية ثقافة مكرّسة لتشجيع إنتاج وبيع البضائع والسلع. بالنسبة للرأسماليين، تقوم هذه الثقافة بتشجيع تراكم الأرباح، أما بالنسبة للعمال فهي تشجع تراكم الرواتب، وبالنسبة للمستهلك هي تشجع تراكم السلع. بكلمات أخرى، تعمل الرأسمالية على تحديد تصرف فئات الناس وفقاً لمجموعة من القواعد التي تعلموها والتي تدفعهم إلى التصرف بالطريقة التي يتصرفون بها.
لا يوجد شيء طبيعي في هذا التصرف. فالناس ليسوا مدفوعين بطبيعتهم لمراكمة الثروة، وهناك مجتمعات لا تشجع أبداً مثل هذا التراكم للثروة. كما أن البشر لا يحملون بداخلهم دوافع فطرية لمراكمة السلع، وهناك أيضاً العديد من المجتمعات التي ترفض هذه التصرفات ولا تشجعها. كذلك لا يوجد دافع لدى الناس للعمل. وعلى عكس الأفكار السائدة، فإن أبناء الحضارة الرأسمالية يعملون أكثر بكثير من الناس العاملين في تجميع الغذاء أو في الصيد (انظر على سبيل المثال شور 1993). كيف يمكن للحضارة، ضمن الحد الذي يستخدمه علماء علم الإنسان في تصريف هذا المصطلح، أن تشجع الناس على التصرف بطرق وعلى عدم التصرف بطرق أخرى؟ وبالتحديد كيف تعمل حضارة الرأسمالية على تشجيع تراكم الثروة والرواتب والسلع؟ وكيف تعمل في الواقع على تشجيع استمرارية النمو وما يتعلق باستمرارية التغيير؟
ليس من السهل وصف تأثيرات هذه الحضارة على حياة الناس. فقد لاحظ علماء علم الإنسان أن الثقافة تتشكل من جميع الأفكار والتصرفات التي نتعلمها، ومن القواعد والقوانين التي نضعها لتنظيم حياتنا، ومن المعاني التي يبنيها الإنسان لتفسير العالم حوله وموضعه في هذا العالم. ومع ذلك، فإن استخدام مثل هذه الأوصاف المجردة يجعل من الصعب تفهم مدى القدرة التي تمكن انتشار هذه الحضارة من تحديد رؤيتنا للعالم. لذلك، فقد يساعد تزويدنا باستعارة لهذه الحضارة على شكل أفكار وممارسات من حضارة أخرى، وهي هنا حضارة الرسوم الرملية لشعب الناجافو الذي يعيش في جنوب غرب أميركا.
تنتشر لدى شعب الناجافو ممارسة علاجية يعتمد فيها المعالِج على رسم صورة تمثيلية مصغرة للعالم على الأرض، باستخدام الرمل الملون أو دقيق الذرة أو قطع أخرى صغيرة. ورغم وجود نسخ من هذه الرسومات تعد بالآلاف، فإن كل رسمة منها تتضمن عناصر حيوية يصفها الناجافو بأنها شروط عامة للوجود. ويشير الناجافو إلى أفكارهم حول الفضاء عبر رموز تتعلق بالاتجاهات العالمية. كما يشيرون إلى أفكارهم المتعلقة بالحياة الاجتماعية عبر توزيع منازلهم وشخصياتهم الأسطورية. وترتبط القيم في قصصهم وأغانيهم بكل رسم رملي، وتبيِّن هذه الرسوم مكونات تعتبر أساسية في وجود الناجافو مثل الخيول وأدوات الطقوس. وعندما يتم إنجاز العمل أو الرسم يجلس المريض على الرسم أو في وسطه وتبدأ عملية المعالجة المصحوبة بالأناشيد والصلوات. ويدعي الناجافو أن المرض يأتي نتيجة خسارة الأشخاص لمواقعهم الملائمة في العالم. وتهدف طقوس المعالجة إلى إعادة المريض لموقعه، وحالما تنتهي مراسم العلاج ويستعيد المريض عافيته يقوم الرسام بمسح ما رسمه.
والرسوم الرملية عند الناجافو تحتوي على جميع العناصر التي يطلق عليها علماء الإنسان مصطلح الثقافة أو الحضارة. فالثقافة مثلها مثل الرسم الرملي تعمل على تعريف العالم كما يفترض أن يكون موجوداً لساكنيه. فالرسم الرملي يحتوي على عناصر ورموز رئيسية يستخدمها الناس لكي يحددوا مكانهم في المجالين المادي والاجتماعي، وتعمل هذه الرموز والعناصر على تأكيد موقع الإنسان في هذا العالم المخلوق بالإضافة إلى القيم التي تحكم حياته. ومثلها مثل الرسومات الرملية، تعمل الصور الثقافية المحددة كأطر علاجية تنقل لنا الإجابة على أسئلة مثل من نحن؟ وماذا نحن؟ وما هو موقعنا في النظام الأعم للأشياء؟ وتعتبر هذه الصور أو العروض الثقافية علاجية لأنها تساعد الناس على حل التناقضات والالتباسات المتضمنة في كل تعريف حضاري للحقيقة والذات.
إضافة إلى ذلك، يوجد في كل مجتمع رسامو رمل يتحملون أو يعطون مسؤولية تصوير هذا العالم للآخرين، ويمتلكون القدرة على تعريف وتحديد العناصر الضرورية بالنسبة للآخرين من أجل تحديد هوياتهم ومواقعهم. وفي بعض المجتمعات مثل الناجافو يكون هؤلاء الأشخاص أفراد مثل المعالج أو الساحر أو راوي الأساطير والقصص، وفي مجتمعات أخرى نجد أفراداً مثل رجل الدين والشاعر والكاتب والفنان والمغني أو الراقص. أما في الرأسمالية فرسامو الرمل يعملون في الكنائس أو المساجد أو الكنس، وفي المسارح أو أمام أجهزة التلفزيون والألعاب الرياضية أو في مراكز التسوق التي تعيد تأكيد رؤية الوفرة وهي الرؤيا المركزية لدى المستهلكين في جميع أنحاء العالم. وقد عمل رسامو الرمل المعاصرون مثل خبراء الأسواق والإعلام ووكلاء الحكومات وأخصائيي العلاقات العامة في الشركات الكبرى والصحفيين وفناني الترفيه وآخرين على نسج رؤيا للعالم تم تصميمها خصيصاً للوصول إلى أقصى حد في إنتاج واستهلاك البضائع. وقد ساعد هؤلاء على إيجاد ثقافة تشكل السلع عناصرها الأساسية وتجعل الشراء من أول واجبات المستهلك أو كما يقول الملصق الإعلاني الشهير «تسوق حتى تسقط من الإعياء» . إنها الثقافة التي تجري فيها جميع النشاطات اليومية مثل العمل واللهو والمسؤوليات الاجتماعية وغيرها، في سياق السلع الاستهلاكية، والتي يعتبر فيها التسوق، مثله مثل العلاج برسومات الرمل، نشاطاً علاجياً. مثل هذه الرسومات الرملية المعاصرة تعمل على بناء ثقافة يقوم فيها كل فرد في وقت من الأوقات بتمثيل دور المستهلك. ولعل السؤال الذي نحتاج إلى طرحه أولاً هو كيف تم خلق عالم المستهلك وكيف تم خلق المستهلك بحد ذاته؟