أنت هنا

قراءة كتاب التعليق المنقول في كلام شيخ الإسلام عن أئمة الأصول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التعليق المنقول في كلام شيخ الإسلام عن أئمة الأصول

التعليق المنقول في كلام شيخ الإسلام عن أئمة الأصول

كتاب "التعليق المنقول في كلام شيخ الإسلام عن أئمة الأصول"، هذه تعليقات جليلة، وحاشية ذات قدر وفضيلة، جمعتها من كلام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني _ وهو أحمد بن حنبل الثاني _ على مختصر في الأصول معتمد، وهو «منهاج الوصول» للقاضي البيضاوي، وهو كتاب ذو شروح

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

ومن المعلوم لمن تدبر الشريعة أن أحكام عامة أفعال العباد معلومة لا مظنونة، وأن الظن فيها إنما هو قليل جدًّا في بعض الحوادث لبعض المجتهدين، فأما غالب الأفعال _ مفادها وأحداثها _؛ فغالب أحكامها معلومة _ ولله الحمد _، وأعني بكونها معلومة أن العلم بها ممكن، وهو حاصل لمن اجتهد واستدل بالأدلة الشرعية عليها، لا أعني أن العلم بها حاصل لكل أحد؛ بل ولا لغالب المتفقهة المقلدين لأئمتهم؛ بل هؤلاء غالب ما عندهم ظن أو تقليد.
إذ الرجل قد يكون يرى مذهب بعض الأئمة، وصار ينقل أقواله في تلك المسائل، وربما قربها بدليل ضعيف من قياس أو ظاهر، هذا إن كان فاضلاً، وإلا كفاه مجرد نقل المذهب عن قائله، إن كان حسن التصور، فهماً صادقاً، وإلا لم يكن عنده إلا حفظ حروفه، إن كان حافظاً، وإلا كان كاذباً، أو مدعياً، أو مخطئاً.
ولا ريب أن الحاصل عند هؤلاء ليس بعلم؛ كما أن العامة المقلدين للعلماء فيما يفتونهم؛ فإن الحاصل عندهم ليس علماً بذلك عن دليل يفيدهم القطع، وإن كان العالم عنده دليل يفيد القطع.
وهذا الأصل الذي ذكرته أصل عظيم، فلا يصد المؤمن العليم عنه صاد؛ فإنه لكثرة التقليد والجهل والظنون في المنتسبين إلى الفقه والفتوى والقضاء؛ استطال عليهم أولئك المتكلمون، حتى أخرجوا الفقه _ الذي نجد فيه كل العلوم _ من أصل العلم لما رأوه من تقليد أصحابه وظنهم.
ومما يوضح هذا الأصل أنه من العلوم أن الظنون غالباً إنما تكون في مسائل الاجتهاد والنزاع، فأما مسائل الإيمان والإجماع؛ فالعلم فيها أكثر قطعاً.
وإذا كان كذلك؛ فمن المعلوم أن من أشهر ما تنازعت فيه الصحابة _ ومن بعدهم _ مسائل الفرائض؛ كما تنازعوا في الجد وفروعه، وفي الكلالة، وفي حجب الأم بأخوين، وفي العمريتين _ زوج وأبوان، وزوجة وأبوان _، وفي الجد هل يقوم مقام الأب في ذلك؟ وفي الأخوات مع البنات هل هي عصبة أم لا؟ وفيما إذا استكمل البنات الثلثين، وهناك ولد ابن؟ ونحو ذلك من المسائل التي يحفظ النزاع فيها عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد، وابن عباس _ وغيرهم من الصحابة _.
لكن أئمة هذا الباب خمسة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد، وابن عباس، وإذا كانوا تنازعوا في الفرائض أكثر من غيرها؛ فمن المعلوم أن عامّة أحكام الفرائض معلومة؛ بل منصوصة بالقرآن؛ فإن الذي يفتي الناس في الفرائض قد يقسم ألف فريضة منصوصة في القرآن مجمعاً عليها، حتى تنزل به واحدة مختلف فيها؛ بل قد تمضي عليه أحوال لا تجب في مسألة نزاع.
وأما المسائل المنصوصة المجمع عليها؛ فالجواب فيها دائم بدوام الموتى، فكل من مات لا بد لميراثه من حكم، ولهذا لم يكن شيء من مسائل النزاع على عهد النبي× مع وجود الموت والفرائض دائماً، ومع أن كل من كان يموت على عهد النبي×؛ فإنه ما وضع قط مال ميت في بيت مال، ولا قسم بين المسلمين كما كان يقسم بينهم الفيء ومال المصالح.
ولكن لما فتحت البلاد، وكثر أهل الإسلام في إمارة عمر؛ صار حينئذ يحدث اجتماع الجد والإخوة، فتكلموا في ذلك، وكذلك حدثت العمريتان، فتكلموا فيها.
هذا مع أن علم الفرائض من علم الخاصة، حتى أن كثيراً من الفقهاء لا يعرفه، فهو عند العلماء به من علم الفقه اليقيني المقطوع به، وليس عند أكثر المنتسبين إلى العلم _ فضلاً عن العامة _ به علم ولا ظن، وذلك كالقضايا التجريبية في الطب؛ هي عند المجربين لها والعالمين بها من المجربين معلومة، وأكثر الخائضين في علوم أخر _ فضلاً عن العامة _ ليس عندهم علم ولا ظن.
بل باب الحيض، الذي هو من أشكل الفقه في كتاب الطهارة، وفيه من الفروع والنزاع ما هو معلوم، ومع هذا أكثر الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال النساء في الحيض معلومة، ومن انتصب ليفتي الناس؛ يفتيهم بأحكام معلومة متفق عليها مئة مرة، حتى يفتيهم بالظن مرة واحدة، وإن أكثر الناس لا يعلمون أحكام الحيض وما تنازع الفقهاء فيه من أقله وأكثره، وأكثر سنين الحيض وأقله، ومسائل المتحيرة، فهذا من أندر الموجود، ومتى توجد امرأة لا تحيض إلا يوماً، وإنما في ذلك حكايات قليلة جدًّا، مع العلم بأن عامة بنات آدم يحضن؛ كما قال النبي×: «إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم».
وكذلك متى توجد في العالم امرأة تحيض خمسة عشر يوماً، أو تسعة عشر، أو امرأة مستحاضة دائماً، لا يعرف لها عادة، ولا يتميز الدم في ألوانه؛ بل الاستحاضة إذا وقعت؛ فغالب النسوة يكون تميزها وعادتها واحدة، والحكم في ذلك ثابت بالنصوص المتواترة عن النبي×، وباتفاق الفقهاء.
ونحن ذكرنا في الموت الذي هو أمر لازم لكل أحد، وقل من يموت إلا وله شيء، وفي الحيض الذي هو أمر معتاد للنساء، وكذلك سائر الأجناس المعتادة؛ مثل النكاح وتوابعه، والبيوع وتوابعها، والعبادات، والجنايات.
فإن قال قائل: مسائل الاجتهاد، والخلاف في الفقه كثيرة جدًّا فيهذه الأبواب.
قيل له: مسائل القطع، والنص، والإجماع بقدر تلك أضعافاً مضاعفة، وإنما كثرت لكثرة أعمال العباد وكثرة أنواعها؛ فإنها أكثر ما يعلمه الناس مفصلاً، ومتى كثر الشيء إلى هذا الحد؛ كان كل جزء منه كثيراً، من ينظرها مكتوبة؛ فلا يرتسم في نفسه إلا ذلك؛ كما يطالع تواريخ الناس والفتن، وهي متصلة في الخبر، فيرتسم في نفسه أن العالم ما زال ذلك فيه متواصلاً، والمكتوب شيء والواقع أشياء كثيرة، فكذلك أعمال العباد وأحكامها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.
أما غير الخائض في الفقه في فنون أخرى؛ فظاهر، وأما الخائض فيه؛ فغالبهم إنما يعرف أحدهم مذهب إمامه، وقد يعلمه جملة، لا يميز بين المسائل القطعية المنصوصة والمجمع عليها، وبين مفاريده، أو ما شاع فيه الاجتهاد، فنجده يفتي بمسائل النصوص والإجماع من جنس فتياه بمسائل الاجتهاد والنزاع؛ بمنزلة حمار حمل سفراً ينقل نقلاً مجرداً، حتى أنه يحكى لأحدهم أن مذهب فلان بخلاف ذلك؛ فيسوغ ذلك، ويكون الخلاف في ذلك من الممتنعات بين الملل، فضلاً عن أن يختلف فيه المسلمون.
وقد بلغني من ذلك عن أقوام مشهورين بالفتيا والقضاء، حتى حكوا لملك بلدهم أن من مذهب الشافعي أن المطلقة ثلاثاً تباح بالعقد الخالي عن الوطء، وصبيان الشافعية يعلمون أن هذا مما لم يختلف فيه مذهبه، وحتى يحكوا عن مالك أن المتعة عنده جائزة، وليس في المتبوعين أشد تحريماً لها منه ومن أصحابه، حتى أنه إذا وقت الطلاق عنده؛ ينجز؛ لئلا يصير النكاح مؤقتاً كنكاح المتعة.
وأبلغ من ذلك: يحكون في بلادهم عن مالك حل اللواط، ويذكر ذلك لمن هو من أعيان مذهبه، فيقول: القرآن دل على تحريمه، ولا يمكنهم أن يكذبوا الناقل، ويقولوا: هذا حرام بالإجماع، مع أن العالم يعلم أن هذا حرام بإجماع المسلمين، واليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، وأكثر المشركين، لم يستحله إلا قوم لوط، وبعض الزنادقة من بقية الطوائف، فلجهل هؤلاء _ وأمثالهم _ بالتمييز بين مسائل العلم والقطع، ومسائل الاجتهاد؛ التبس الأمر عليهم، فلم يمكنهم أن يحكموا في أكثر ما يفتي به أنه قطعي، وهو قطعي معلوم من الدين للعلماء بالدين.

الصفحات