أنت هنا

قراءة كتاب الزيت المبارك

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الزيت المبارك

الزيت المبارك

رواية "الزيت المبارك"، للكاتب الأردني أكرم السواعير، الصادرة عن دار العثمانية للنشر والتوزيع، نقرأ من مقدمة الكاتب:
ذاكرة الإنسان شيء عجيب ومن أعجب ما خلق الله!
كيف يتم التخزين فيها؟
كيف يتم ترتيب المعلومات؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

(1)

استيقظ على صوت أمه وهي تهمهم كعادتها بألفاظ غير مفهومة تسلي نفسها وهي تظن أن صوتها غير مسموع.
كانت تتحرك في الغرفة جيئةً وذهاباً تعيد ترتيب الأشياء القليلة التي تغيرت أماكنها في عتمة الليلة الماضية.
تنقل إبريق الشاي الذي أكله السواد وصار جزءاً منه غير قابل للزوال، وقد تركت الأيام أكثر من انبعاج في جوانبه ولم تبق من لونه القديم إلا بقية من الجبصين الأزرق على غطاءته المثقوبة من الأعلى.
صينية الشاي (التوت) التي كثرت النقرات والتجاويف فيها وقد ارتمت عليها أربع كاسات شاي (ضد الكسر)، وما زالت تحمل بقايا شاي ثقيل أسود تم امتصاصه بتلمّظ في الليلة الماضية على ضوء الفانوس الراعش.
الفانوس الوقور الذي ما زالت زجاجته الممشوقة تحمل هالات السناج والتي افترشتها من الداخل ولم تترك سوى فوهتها الرفيعة نقية من السواد، وقد راحت في سبات عميق في الكوة المجوفة.
الكوة العتيقة المحفورة في الجدار والتي يهيأ للرائي أنه قد تم تسويتها في الطين بيد حانية رقيقة من زمن موغل في القدم.
رفع رأسه بتثاقل وهو يمرر يده على شعره النافش المتناثر بفوضى مخيفة وتناول المخدة من تحت رأسه، وأخذ يشم كسوتها البنية الكالحة، وحالما زكمته رائحة العرق المتراكم أبعدها، وألقاها خلف ظهره، وجعلها بينه وبين الحائط الطيني المهترئ.
يتابع أمه في ثوبها الأسود ذي الطبقات المتراكبة والتي تبلغ أربع أو خمس طبقات طبقة فوق طبقة، وتثبتها من الوسط قماشة عريضة مشدودة على الخصر على شكل حزام، ويعلو الثوب طبقة تلتف حول رأسها على شكل منديل كبير.
هذا الزي من ألبسة العجائز لكنها اختارته منذ ست عشرة سنة، لتنكبّ على تربية صغيرها ولتدفع عن بابها طرقات الخُطاب، الذي يطمعون بالاقتران بصاحبة الوجه الجميل.
تحرك يدها بمكنسة من القش تآكلت جوانبها وبقي شيء من وسطها تم تثبيته على شكل لفافة بخيط من القنب، وأخذت تحركها على أرض الغرفة وتجهد وهى تدخلها في الحفر المتناثرة لتخرج منها الأتربة وأعواد (الهيشي).
ثوبها الطويل يجرجر على الأرض بحنان وهي تتحرك مرفوعة القامة، ثم تنحني لتسحب في طريقها البساط الصوفي الباهت الحمرة، ولتسوي بيدها بعض (شراشبه) التي ما زالت معلقة في مكانها قريبة من الخروق المنتشرة والمناطق الذائبة.
يعلو صوتها وهي تحرك مكنستها برتابة دون أن تنظر إليه:
- »قم غَسّل واستهد بالرحمن«.
يهمهم بصوت ما زال يحمل آثار النوم:
- »لا إله إلا الله محمد رسول الله«
تمر صور صلاتها الرتيبة في ذهنه، حيث تستقبل القبلة وتكبر، وتبدأ بقراءة الفاتحة بصوت مسموع، ثم تركع وترفع وهي ما زالت في الفاتحة، ولا تختمها إلا في السجود، ثم ترفع من جديد وتكرر ذلك في ركعاتها كلها، وفي نهاية الصلاة ترفع يديها داعية، فتقرأ الصلاة الإبراهيمية بصوت نديٍ راجٍ وهي تبتهل:
- »يا رب. عفوك كبير وعبدك ذليل. يا رب. لا أعرف كيف أقولعليك القبول«.
يحاول معها بتلعثم:
- »أمي. أعلم أنني ما زلت صغيرا، وعمري ستة عشر عاما، ولكنني أريد أن أنصحك«
تتأمل جسمه النحيل الطويل ووجهه الذي ما زال يحمل براءة الطفولة وحسنها وعينيه الواسعتين اللتين تشبهان عيني والده. ثم تقول بعطف:
- «حاتم. أنت وحيدي. أنت كبيرنا. هات ما عندك»
- «أمي الفاتحة اقرأيها وأنت واقفة، ثم في الركوع قولي سبحان ربي العظيم»
تحاول ولكنها تنسى وتعود لعادتها القديمة، فيكف عنها وهو يرى رحمة الله الواسعة التي تتجاوز عن الجاهل الضعيف الذي يجتهد حسب معرفته والتي لا تعاقب إلا الفاجر المقتحم الهالك الذي يتقصّد البغي والعدوان.
يبتسم وقد سها عن صب الشاي وشربه، فتناديه وهي في صلاتها في إحدى المرات:
- «يا وليدي حاتم. اشرب الشاي قبل أن يبرد».
يرجعه صوتها الدافئ:
- «ماذا بعد؟ أنا صحوت قبل فجة الضوء وتوضأت وصليت، وعجنت ورفعت الفراش وأنت في شخيرك، قم فاقض صلاتك»
يحرك عينيه باتجاه باب الغرفة المفتوح قليلا، ضوء النهار ما زال قرب المصرف مما يعني أن الساعة مازالت حول السابعة. يتابع بعينيه الضوء المستقيم المنبعث من شق الباب حيث تسبح خلاله هباءات متثاقلة تدور حول بعضها.
يتذكر موعظة أحد الشيوخ:
- « ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ،وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7-8]، تحاسب حتى على الذرة: الهباءة السابحة في الضوء من الخير أو الشر. الهباءة في الميزان، لا حول ولا قوة إلا بالله»
ينهض ويخرج من باب الغرفة. تمتد عيناه إلى العشب النامي بسكينة في أطراف الحديقة في بدايات آذار وقد تلألأت عليه حبات الندى، وبدأت وريقاته تتحرك بفعل الهواء الخفيف البارد. يرتعش من البرد. تصل إليه دفقه من الضياء فجأة فينظر باتجاه (العويليا) حيث الشمس تتبطح على قمته، وتقوم بطرد الغيوم غيمة غيمة عن وجهها الصبيح.

الصفحات