أنت هنا

قراءة كتاب نافذة على الحداثة - دراسات في أدب جبرا إبراهيم جبرا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نافذة على الحداثة - دراسات في أدب جبرا إبراهيم جبرا

نافذة على الحداثة - دراسات في أدب جبرا إبراهيم جبرا

يتناول الدكتور عيسى بلاّطة، أستاذ الأدب العربي في جامعة ماكجيل بمونتريال / كندا، في هذا الكتاب مؤلفات صديقة الراحل جبرا إبراهيم جبرا بالتحليل والدراسة في خمس مقالات نقدية، ويبين دوره الفعّال في إرساء الحداثة في الأدب العربي المعاصر، بصفتها نابعة من أصالة ال

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

1

جبرا والحداثة*
قد يبدو الكلام على الحداثة في بداية القرن الحادي والعشرين موضوعاً قديماً بعد أن بحثها النقاد ومؤرخو الأدب العربي طويلاً في منتصف القرن العشرين وفي ما تلاه من سنوات· وقد يبدو كلاماً نافلاً غير ضروري، ولاسيما بعد دخول النتاج الأدبي الجديد عصر ما بعد الحداثة في كثير من بلدان العالم· غير أن مفهوم الحداثة الفضفاض لدى الكثيرين ومفنوم جبرا إبراهيم جبرا المحدد له يحتّمان علينا أن نعود إلى بحثها، آملن أن نوضّح مفهومها لديه ونشير بإيجاز إلى ما أنجزه هو من أعمال أدبية تُحقق هذا المفهوم وتُجسّده·
يقول جبرا في حوار أجراه معه إلياس خوري سنة 4 7 9 1:
الحداثة هي أن تجد الطريق لكيما تكون مساهماً فاعلاً في حضارة هذا القرن· لذلك فأنت مطالب بالتمرد، ومطالب بأن يكون في تمردك ما يستمد بعض حيويته من جذورك وتضيف إليه من أصالتك المتجهة نحو زمانك، فتصبح جزءاً فاعلاً في عصرك، جزءاً غير منقطع عن ماضيك، ولكنه جزء لا يكرر ماضيك، ويحفزه التحرر حتى من حاضرك· أنا لا أقول بالانقطاع المطلق، فأنا أومن أن للتراث قوة هائلة في حياتنا· ويجب أن تبقى له هذه القوة المغذية للنفس· لكني أقول خذ من التراث ما هو حي وأترك ما هو ميت للأكاديميين الذين يقول عنهم رامبو إنهم أموات أكثر من أي متحجر· إن في التراث قوة نستمدها ولكن يجب أن نضيف إليها قوة جديدةس، بحيث تكون الحداثة انطلاقاً سهمياً لا دوراناً انكفائياً· يتصور بعض الناس أنك بالعودة إلى التراث تجدده· هذا غير صحيح· فالعودة إلى التراث لا تجدد شيئاً، لكن بالانطلاق منه، وبالإضافة إليه، تجدد قوته، إذ بالإضافة فقط تهيئ المسار المستقبلي للنُسغ الحي الكائن فيه· (جبرا إبراهيم جبرا، ينابيع الرؤيا: دراسات نقدية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 9 7 9 1، ص 1 4 1 ·)
في هذا التحديد للحداثة، نجد أن جبرا يربطها رابطاً وثيقاً بالحضارة الراهنة عن طريق المساهمة الفاعلة فيها ويربطها أيضاً بالتمرد عن طريق الإضافة الأصلية إلى هذه الحضارة· فننظر في هدين المفهومين أولاً: الحضارة والتمرد·
الحضارة التي يعنيها جبرا هي حضارة القرن العشرين، وهي الحضارة التي ورثت الكثير عن حضارات الماضي، ولكنها تتميز عليها بأشياء جديدة لم تكن جزءاً من حضارات الماضي هذه· فمن الجديد فيها ما توصل إليه العلم الحديث من حقائق واكتشافات وما أدخله ذلك على فهم الحياة من نظريات ومسلّمات صارت جزءاً من حياة الناس في كل شأن من شؤونهم· لقد أدرك جبرا بشكل عميق جداً أن حياة الإنسان الحديث ما عادت مثل حياة الإنسان في الماضي· كثيرون يعرفون هذه الحقيقة الواضحة ولكنهم لا يعيشونها· زما جبرا فيعيشها حتى أعماق روحه، وبالتالي فإن الحداثة في الأدب لديه ينبغي أن تأخذه هذه الحقيقة في عين الاعتبار بالجدّية القصوى·
ومن هنا ضرورة التمرد في رأيه· إنه لا يقول على ماذا يكون هذا التمرد، ولكننا ندرك من سياق كلامه التالي أنه التمرد على الماضي وأنه التحرر من كل ملابساته المعوقة التي تمنع من انطلاق نشاط الإنسان انطلاقاً سهمياً إلى الأمام في الحاضر ونحو المستقبل· غير أن جبرا لا يقول بالانقطاع عن الماضي انقطاعاً كلياً مطلقاً· ذلك أنه يرى أن فيه تراثاً ذا قوة هائلة لا يمكن ــ بلا لا ينبغي ــ أن تُهمل لأنها في رأيه مغذية للنفس· ولكنه يقول إن على المرء أن يأخذ ما هو حي من التراث ويترك كل ما هو ميت·
هذه إذن وسيلة الحداثة الأساسية في رأي جبرا: الإضافة إلى التراث والزخذ مما هو حي فيه وترك كل ما هو ميت· أما كيف يعرف المرء ما هو حي وما هو ميت من التراث، فلا يدخل جبرا في تفاصيل ذلك هنا· فهذه قضية خلافية ما زالت المعارك الفكرية تدور حولها حتى اليوم، ولكنه يرى حلها في فعل الإنسان النابع من أصالته· وذلك حين يقول إن على المرء أن يتمرد، وأن يكون في تمرده ما يستمد بعض حيويته من جذوره أي من تراث الماضي المتأصل فيه، وأن يضيف إلى ذلك من أصالته الفردية المتجهة إلى زمانه الرهن لكي يكون مساهماً فاعلاً في حضارة هذا القرن·
في هذا القول استعمال مزدوج لمعنى الأصالة والتًل· فالأصالة أولاً هي الانزراع والتجذر في الأصل، في تراث الماضي الأصيل، ومن ثم الصدور عنه والانطلاق منه والتعبير بوحيه عن الذات والهوية بصدق ومصداقية· ولعل الكلمة الإنكليزية المقابلة لمعنى الأصلاة هذا هي authenticity أما المعنى الآخر للأصالة فهو كون المرء يصدر عن أصل ذاته حراً من كل تأثير مسبق فيكون لكل ما يصدر عنه صفة ذاتية لا يُعرف لها مثل سابق لأنها جديدة غير مسبوقة هي من ابتكار هذا الفرد واختراعه· ولعل الكلمة الإنكليزية المقابلة لمعنى الأصالة هيا هي Originality· وبين هذين المعنيين اتصال وثيق· المعنى الأول اجتماعي جماعي موروث من الأصل الماضي، والمعنى الثاني فردي نفسي نابع من أصل الذات الخلاقة· وفي رأيي أن جبرا حاول أن يكون ما يعنيه بالحداثة اجتماع هذين المعنيين في آن واحد: فهي علاقة وثيقة بما هو حي في ماضي المجتمع وحضارته، وهي علاقة وثيقة بما هو حي في حاضر النفس الفردية وقواها الخلاقة لكل ما هو جديد·
من هذا التفسير لمعنى الحداثة في مفهوم جبرا، يدرك المرء أنه يرمي إلى موقف جادٍ من التاريخ ومن تراث الماضي ومن مجموع الثقافة والحضارة في ضوء الثورة العلمية الحديثة، ويدرك المرء أنه يرمي أيضاً إلى موقف يشعر فيه الأديب بمسؤوليته الكبيرة تجاه المجتمع وتجاه الغد· هذه الجديّة وهذه المسؤولية يضعهما جبرا على عاتق الأديب المفكر إذ يطلب منه أن يتمرد، وأن يستمد من التراث الحي، وأن يضيف إلى هذا التراث ما هو جديد لديه· وهو يحذره من الانكفاء والعودة إلى التراث عودة تكرار لا تُجيد فيه شيئاً، بل يطلب منه الانطلاق منه والإضافة إليه لتجديد قوته وتهيئة مسار النُسغ الحي للكائن فيه· إن جبرا يؤمن بوجود النُسغ الحي في التراث ويريد للحداثة أن تواصل دفع الحياة· الحداثة إذن هي انطلاق التراث الحي في نموّه الدائم لمواجهة متطلبات الحياة العصرية بالإضافات الخلاّقة، وذلك لمواصلة كينونته وتاريخه بأصالة معبرة عن هويته وفرادته وفاعلة في العصر الحديث بالتجدد المستمر·
إن مفهوم جبرا للحداثة مفهوم واضح المعالم محدد الأبعاد· ولعله متأثر فيه بأفكار الشاعر والناقد الإنكليزي ت· س· إليوت ولاسيما في مقاله المشهور البعيد الأثر Tradition and Individual Talentولكن جبرا كيّف هذا المفهوم لمقتضيات النقد العربي وما كان يدور فيه من نقاش حول الحداثة العربية في ذلك الوقت· ومهما يكن من أمر، فإنه رأي نظريّ لعل جبرا حاول فيه أن يبرر ما كان يكتبه هو من شعر أو نثر، وذلك كغيره من الشعراء والأدباء الذين يكتبون النقد ويُنظرون للأدب بنظريات تعكس اهتماماتهم·
غير أن عاملين قويين في حياة جبرا في شبابه هما اللذان أقنعاه بهذا المفهوم للحداث وهما: أولاً، ثقافته الواسعة في آداب الغرب وحضارته؛ وثانياً؛ نكبة فلسطين سنة 8 4 9 1· أما العامل الأول فذلك أن جبرا أطلع إطلاعاً مباشراً عميقاً على الآداب الغربية في دراساته الجامعية في بريطانيا وسياحته في أوروبا واختباره الحضارة الغربية عن كثب بالعيش في الغعرب خلال سنوا الحرب العالمية الثانية وأيامها العصيبة· هذا العامل الأول أقنعه بأن الغرب ما توصل إلى ما هو عليه من قوة سياسية واقتصادية وعسكرية ومن رقي في الفنون والآداب ومن تنظيم في المجتمع ومؤسساته إلا بالعلم وتطبيقه في الحياةاليومية تطبيقاً عملياً من ناحية، وبالحرية وتطبيقها في الحياة تطبيقاً ديمقراطياً من ناحية أخرى· فأراد لأمته العربية أن يكون لها مثل ذلك· لكنه ما كاد يعود وطنه من بريطانيا سنة 3 4 9 1 ويبشّر بآرائه حتى نُكبت فلسطين كبتها الكبرى سنة 8 4 9 1·
وقد كانت نكبة فلسطين هذه عاملاً ثانياً حفز جبرا ليمضي قُدُماً في ما توصل إليه من مفهوم للحداثة· وذلك أنه وجد أن مجتمعه العربي المبني على أسس حضارة تقليدية ماضوية قد انهار أمام المجتمع الصهيوني المبني على أسس حضارة حديثة منفتحة على الغد مشتقة من حداثة الحضارة في الغرب، فاشتد إيمانه بضرورة الحداثة وأهمية الأخذ بالحضارة الحديثة لتقوى بها أمته وتستعيد حقها المسلوب في فلسطين· واشتد كذلك إيمانه بضرورة التمرّد على كل ما في مجتمعه من رواسب الحضارة التقليدية الماضوية ومعوقات ثقافية تحول دون قوة الأمة العربية وتحرير فلسطين وتحرّر الإنسان العربي·
غير أن جبرا كان يدرك أنه ليس رجل سياسة ودولة، ولا رجل إصلاح اجتماعي واقتصادي وعسكري· كان يدرك أنه رجل أدب، وأن أداته في تمرده هي الكلمة وأن دافعه في التمرد هو الحب: حبُ الوطن وأهله، حبّ الحرية والخلق الأصيل، حبّ الحياة والعيش بسلام، حبّ الثقافة الجديثة والتراث المتجدد· وكان يعرف أن للكلمة من السلطان ما للحب من السلطان على القلوب، لذلك جرّد كلمته سيف تمرد وتحرّر، وشهَرَها سلاح تجديد وإضافة، وأعلن الحداثة على الأدب العربي·
ولعل جبرا يبدو أكثر تمرداً وتحرراً، وأكثر تجديداً وإضافةً في شعره مما هو في نثره· لكن الحقيقة أن حداثته في الشعر هي حداثته في النثر، فهي في كليهما صادرة عن فهم واحد للثقافة والحضارة وما يجب على الأديب أن يفعل لتجديدهما بالتمرد والإضافة· إلا أن البون شاسع ما بين الشعر الحر الذي نادى به جبرا وحققه في ما كتب من شعر وبين الشعر التقليدي الذي ثار عليه، بحيث تبدو الفجوة بينهما أكبر بكثير من الفجوة التي بين النثر الذي كتبه من قصة رواية ونقد أدبي وبين النثر السائد في زمنه في هذه الفنون الأدبية· وسبب ذلك أن الشعر العربي الذي يمتد تاريخه على أكثر من خمسة عشر قرناً كان قد أرسى قواعده المتحكمة في شكله ومضمونه بقوة ثابتة لم تستطع الأجيال المتلاحقة زحزحتها كثيراً إلا ما كان من شزن الموشحات في الأندلس، وما جاء به بعض شعراء العصر العباسي من تجديد، وما حققه بعض شعراء المهجر والوطن في القرن العشرين من إضافات· غير أن ما دعاه النقد العربي القديم عمودَ الشعر ظل سالماً، وبقيت للشعر العربي الأسس البلاغية ذاتها التي تُبنى عليها صوره ومعانيه وتراكيبُه، كما بقيت له أوزانه وقوافيه وإيقاعاته وموسيقاه التي عرفها طيلة قرون·

الصفحات