اجتاحت المجتمع الانساني ، خلال العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين تحولات كبرى بلغ من عمقها واتساع نطاقها ، ما يجعلها جديرة بوصف " الثورة العالمية " وبخاصة بعد ان امتدت اثارها لتطال كل اوجه الحياة وعناصرها ، محدثة فيها تغيرات جذرية شاملة .
أنت هنا
قراءة كتاب المجتمع المدني والديمقراطية - مقاربة تحليلية في ضوء التجربتين السياسيتين الغربية والعربية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

المجتمع المدني والديمقراطية - مقاربة تحليلية في ضوء التجربتين السياسيتين الغربية والعربية
تمهيـد
اجتاحت المجتمع الانساني ، خلال العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين تحولات كبرى بلغ من عمقها واتساع نطاقها ، ما يجعلها جديرة بوصف " الثورة العالمية " وبخاصة بعد ان امتدت اثارها لتطال كل اوجه الحياة وعناصرها ، محدثة فيها تغيرات جذرية شاملة .
وفي الاطار الاجتماعي – السياسي ، اتخذت هذه التحولات صورة مد ديمقراطي ، اجتمعت كل قوته في موجه كبرى جارفة ، رأى فيها "هنتنجتون " "الموجه الثالثة " للتحول السياسي الديمقراطي التي تجتاح العالم ، موسعة النطاق الجغرافي – السياسي للافكار والنظم القائمة على الديمقراطية واحترام حقوق الافراد وحرياتهم الاساسية المدنية والسياسية ، على حساب الافكار والنظم الاستبدادية ،التي تتجاهل هذه الحقوق والحريات الاساسية أو تعترف بها شكلياً وتنتهكها علي المستوى العملي ، فكان ذلك مدخلاً لحدوث ما اسماه السيد يسين "انتقال حاسم من الشمولية والتسلطية الى الديمقراطية "
ولان الثورةالعالمية وتحولاتها ومدها الديمقراطي ، حدثت في سياق الصراع بين المعسكرين الرأسمالي الديمقراطي والاشتراكي الاستبدادي ، فقد حرصت الولايات المتحدة الامريكية علي استغلال ظروف هذا الصراع ومحصلاته ، لتصادر مقدمات تلك الثورة الديمقراطية العالمية ونتائجها لصالحها اساساً ، ولصالح النظم الرأسمالية الغربية استلحاقاً ،جاعلة منها بداية قيام نظام عالمي جديد أعلن الرئيس الامريكي بوش في خطابه امام الجمعية العامة للامم المتحدة في 23/9/1991 ، أن الولايات المتحدة الامريكية هي صاحبة الفضل الاول في خلقه وتعزيز اتجاهاته ، وكرر الرئيس كلنتون عام 1992 تاكيد المسؤولية الامريكية عن تعزيز الديمقراطية ، وجعل ذلك القضية الاساسية للسياسة الخارجية الامريكية .وهو ماكان استكمالا لمسيرة سابقة ، اعلن فيها الرئيس كارتر ، أن حقوق الانسان ركن اساسي في سياسته الخارجية ، بينما طالب الرئيس ريغان بحملة عالمية "من اجل الديمقراطية " .
وفي الطرف الاخر من العالم فان دول عدم الانحياز، وهي اساساً دول العالم المتخلف ، ،اكدت في اعلانها الصادر عن اجتماع "اكرا " في 7/9/1991 ، تأييدها لمطالب الديمقراطية والتعددية السياسية واحترام حقوق الانسان ،وشددت على ضرورة ربطها بمطالب العدالة الاجتماعية والاقتصادية ، ورفضها للمحاولات الامريكية والغربية لصياغة النظام العالمي الجديد وتحديد خصائصه وتوجهاته، وفقاً لسياسات الغرب ومصالحه ،ومعارضتهل لمساعيه الرامية لاحتكار ثمار هذا النظام ونتائجه.
وينطوي اعلان دول عدم الإنحياز هذا ، على اعترافها الجماعي الرسمي بالأهمية الحيوية لمطالب الديمقراطية والتعددية، وضرورتها للمجتمع الإنساني من جهة ،وعلى اقرارها الضمني من جهة ثانية، بفشل سياساتها للاستعاضة عن مطلب الديمقراطية ومشاركة المجتمع المدني في العملية السياسية ، بمطلب اشباع حاجاتها المادية الأساسية. تلك السياسات التي جاءت نتائجها مخيبة للآمال تماماً ، بعد ان فرطت اطرافها بمطلب الديمقراطية والمشاركة السياسية ، ولم تحصل في مقابل ذلك ، على أي اشباع حقيقي او دائم لمطالبها المادية الأولية والأساسية، وهو ما كان دليلا عمليا علي الارتباط العميق والاكيد بين المطالب الساسية والاجتماعية ،و عدم امكانيةالاستعاضة بإحدها عن الآخر، او احلال بعضها محل بعض .
واذ تعاني المجتمعات الانسانية خارج الاطار الراسمالي الغربي من هذه المشكلات واخرى كثيرة غيرها فان معالجة أي منها لن ياتي بثماره الا في اطار المعالجة الكلية لعلاقة المجتمع المدني بالسلطة اليبايبة في هذه المجتمعات، مثلما كانت معالجة هذه العلاقة واشكالياتها الاساس الذي قامت عليه الحداثة الاوربية وكل منجزاتها الايجابية.
وحيث ان تلك المعالجة كانت ذات طبيعة وخصائص سياسية اولا وبالاساس،فسيكون من الطبيعي الاستنتاج بان حل المشكلة السياسية في أي مجتمع ،مشكلة علاقة المجتمع المدني بالسلطة الحاكمة ،قد لايكون الحل المباشر لمشكلات هذا المجتمع ، لكنه الاطار المناسب لحلها والمقدمة الصحيحة لمعالجتها .
ولما كانت مقدمات هذه الوقائع ونتائجها تنطبق علىالمجتمعات الانسانية عامة والمتخلفة خاصة،فانها تنطبق ايضا على المجتمعات العربية بوصفها جزءاً من هاتين الحالتين ، ليكون البدء بحل المشكلات السياسية في الحياة العربية ، هو الإطار المناسب والمقدمة الصحيحة ، لحل مشكلات هذه الحياة ومعالجة ازماتها .
إلا ان الأمور على المستوى الإجرائي العملي ، ليست سهلة كما هوالأمرالان على المستوى التجريدي النظري. فاختيار أي مجتمع لنموذج الحل المناسب لمشكلاته السياسية او تصميمه لهذا النموذج إن اقتضت الضرورة ذلك ،وتوفيرالاسس والمتطلبات المادية والمعنوية اللازمة لنجاحه …… الخ ، كلها مشكلات جديدة لابد من مواجهتها وايجاد الحلول لها ، قبل الحديث عن قدرة الحل السياسي على حل المشكلات السابقة . ولا تدعي هذه الدراسة انها قادرة على تحقيق كل ذلك ، لان مثل هذا االادعاء سيكون اكبر من قدرتها ، ولانها لا تستهدف اكثر من تقديم تصور اولي بهذا الشأن ، من خلال عرضها لصورة تحليلية مقارنة لتجربتي بناء الدولة والمجتمع المدني في الفضائين الحضاريين الغربي والعربي . حيث يمثل النظام الليبرالي الديمقراطي القائم على مشاركة المجتمع المدني في العملية السياسية جوهر الحل السياسي الاوربي.
ولمـا كانت إحـدى هاتيـن التجربتين ( الغربية ) قـد انجـزت الجــزء الأساسـي من مخططـها ، بينما مازالت الأخرى ( العربية ) مشروعاً قيد الأنجاز ، فقد كان من الضروري ان يجتمع في هذه الصورة ، ما هو كائن بما يجب ان يكون ، بفعل ارتباط هاتين الكينونتين ، بما يجعل كلاً منهما مقدمة للآخرى ونتيجة لها في آن واحد . مثلما ان وجود احداهما او معرفتها شرط لوجود الثانية ومعرفتها ودليلاً لها وعليها،و بفعل طبيعة الواقع العربي وظروفه التي تتصارع فيها كينونتان ، راهنة لكنها مرفوضة ، وغائبة لكنها منشودة . وهو ما تجسده قضايا الديمقراطية والمشاركة السياسية للمجتمع المدني ، التي اما انها استجدت على الواقع العربي (المجتمع المدني) ، او انها شهدت فيه عودة صاخبة وانتعاشاً ملحوظاً (الديمقراطية)،بفعل الظروف الدولية والاقليمية والعربية في نهايات القرن العشرين،والتي جعلت هذه القضايا ،المتغير الأساسي والحاكم في المشهد السياسي العالمي . واستنادا الى طبيعة عالمنا المعاصر عالم القرية الكوكبية والاعتمادية المتبادلة فقد اصبحت هذه القضايا قادرة على ان تمارس ضغطها على الجزء العربي من هذا المشهد ، لتفرض عليه استيعابها في خطاباته الاجتماعية والثقافية والسياسية وتفاعلاته الحياتية العملية .