أما بعد، فحكم ابن عطاء الله السكندري يكسوها جلال من نوع خاص، أصله قلب عرف الله ذا الجلال، فصدرت عنه إشارات على طريق معرفة الحق الأعظم في الوجود، من أرقى ما صدر عمن سوى الانبياء، تحس جلالها بلا تكلف، حيث: (كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز)، وكسوة ق
أنت هنا
قراءة كتاب فقه الهجرة إلى الله في ظلال الحكم العطائية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
• لا تؤجل هجرتك!
لا تؤجل هجرتك إلى ربك، فإن (الخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إليه، وتقل عوائقك ثم لا ترحل إليه)، وإن (إحالتك الاعمال على وجود الفراغ: من رعونات النفس)، فإنك إن كنت راجياً رحمته فـ(الرجاء ما قارنه عمل، وإلا فهو أمنية) (22)، وإن (من علامات موت القلب: عدم الحزن على مافاتك من الموافقات (23) ، وترك الندم على مافعلته من وجود الزلات) ، كما أن تضعضع العزم عن فعل الطاعة لا ينفع معه الندم، لأن (الحزن على فقدان الطاعة -مع عدم النهوض إليها- من علامات الاغترار)، فهلا تنظر بعين الاعتبار؟، و(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (الحديد: 16)؟
خامساً: القدر: (ماذا يفعل (هو) بي؟): (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49)
• القدر: (نظام العلاقة بالله)
مثلما أنه قد خلقك من قبل ولم تك شيئاً، فإن الله صانعك على عينه مدة عمرك، وجاعلك له كما يحب: متى فعلت ما يحب!، وإنما (يربيك) ربك بقدره، فـ(ما من نَفَسٍ تبديه: إلا وله فيك قدر يمضيه)(24)، وإنما يقدر ويخلق بعظمته وحده: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49)، وهو يتدرج بك ليوصلك إلى كمالك الممكن بتدبيره وقضائه، فيربو ويزيد قربك كلما بذلت وسعك و(جاهدت) لتسجد ولتقترب: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق: 19)، فيكون القدر الذي يقدره لك: تدبير خالقك الخاص بك، وهو نظام محكم للتربية الإلهية لك، أعلى من قدرتك ولا تغيره مجرد همَّتِك، لأنه موجود قبلك بتقديره وحكمته، وإن (سوابق الهمم: لا تخرق أسوار الأقدار)، و(إلى المشيئة يستند كل شيء، ولاتستند هي إلى شيء)، لأن ربك أعلم بك منك، وهو (اللطيف) الذي يتوصل إلى مراده فيك بما خفي من الأسباب، و(من ظن انفكاك لطفه عن قدره: فذلك لقصور نظره)، وهو به قد كفاك هَمَّ تدبير شأنك وأنت في طريقك للهجرة إليه فـ(أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك؛ لا تقم به لنفسك)، و(لا تتكلف ما كُفيت، ولا تضيع ما استُكفيت)(25) ، فهو قد كفاك شأنك كله بحسن تدبيره ولطف تقديره، فلا تضيع ما يحبه منك وأمرك به، وإن (اجتهادك فيما ضُمن لك، وتقصيرك فيما طُلب منك: دليل على انطماس البصيرة منك)، وإنما مراد الله منك تحقيق عبوديتك والرضا بمقامك، ومكابدة أقداره بكدحك، بما آتاك هو من مقادير، تبتغي بذلك وجهه، مثلما يعلمك شيخ العارفين عبد القادر الكيلاني قدس سره: (نازعت أقدار الحق، بالحق، للحق) (26).
• ربك يربيك بقدره: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: 39)
يقدر الله عليك مدة العمر الخير والشر، واللذة والألم، ليربيك: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء: 35))(27) ، وقصة عمرك السابق تحكي حسن تدبيره واختياره لك، فحين يبتليك بالشر (وليخفف ألم البلاء عنك: علمك بأنه -سبحانه- هو المبلي لك، فالذي واجهتك منه الأقدار: هو الذي عودك حسن الاختيار)، وحين يبتليك بالخير، فإن الشكر طريقك لقربه عند ورود النعم، و(من لم يشكر النعم: فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها: فقد قيدها بعقالها)، وإنما يكون البلاء والامتحان من ربك رحمة حين تغفل عنه وهو قد غمرك قبل بلطفه وإحسانه، فـ(من لم يُقبِل على الله بملاطفات الاحسان: قِيدَ إليه بسلاسل الامتحان)، وفي كل تدبيره لك: سعي بك إليه، فهو (متى أعطاك: أشهدك بره، ومتى منعك: أشهدك قهره، فهو في كل ذلك متعرف إليك ومقبل بوجود لطفه عليك)، وهو الأعلم بما يصلحك وما يصلح لك من العطاء، فـ(ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك)، وإنه (من تمام النعمة عليك: أن يعطيك ما يكفيك، ويمنعك ما يطغيك)، و(إنما يؤلمك المنع؛ لعدم فهمك عن الله فيه)، ولو عرفت ربك اللطيف لفهمت جمال معنى تعرفه عليك بتدبيره، فـ(العطاء من الخلق حرمان، والمنع من الله إحسان)، لأن العطاء من الخلق فتنة، واللجوء إلى ربك عند المنع رحمة ونعمة، وربما يأتيك وقت تعلم فيه أن ربك -إذ منعك- قد صرف عنك بلطفه ما لم تكن تعلمه، و(متى فتح باب الفهم في المنع؛ عاد المنع عين العطاء) (28)، إذ تشهد تربية ربك لك في كل نفس تبديه، وإنما (الغافل إذا أصبح ينظر: ماذا يفعل؟، والعاقل ينظر: ماذا يفعل الله به؟).