أما بعد، فحكم ابن عطاء الله السكندري يكسوها جلال من نوع خاص، أصله قلب عرف الله ذا الجلال، فصدرت عنه إشارات على طريق معرفة الحق الأعظم في الوجود، من أرقى ما صدر عمن سوى الانبياء، تحس جلالها بلا تكلف، حيث: (كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز)، وكسوة ق
أنت هنا
قراءة كتاب فقه الهجرة إلى الله في ظلال الحكم العطائية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
• مقامك: قَدْرُك!
اجتهد لأن تعرف أين مقامك وما هو (حالك)، وذلك يكون بحسب ما تعرفه عن ما أودعه فيك فيما مضى من عمرك من (الاستعداد) وهو يربيك، ثم في مقامك الآن، بين ما خلقه لك وما خُلِقت لأجله، و(من علامات إقامة الحق لك في الشيء: إقامته إياك فيه مع حصول النتائج)، فاعتبر حالك، واجتهد لملء مقامك حيث أقامك بأكمل الإتقان، أباً أو ابناً، معلماً أو متعلماً، مريضاً أو طبيباً، و(إذا أردت أن تعرف قدرك عنده: فانظر فيم يقيمك)، وكيف عملك لملء مقامك، و(لا تطلب منه أن يخرجك من حال؛ ليستعملك فيما سواها، فلو أرادك: لاستعملك من غير إخراج) (31)، فمقامك حيث أقامك، كائناً حيث أرادك مولاك، مشتغلاً بتحصيل مراده وتحقيق عبوديتك، بما كلفك من مكابدة لأقداره بكل ما ييسره لك من أسباب، مستيقناً أن قدرة ربك مطلقة عن كل سبب، وأن الذي خلق النار محرقةً جعلها برداً وسلاماً على خليله إبراهيم، فإذا أقامك في حال أشهدك فيه إطلاق قدرته وتجردها عن الأسباب فقم فيه بعالي همتك لشهودها، وإن أقامك حيث يجب عليك الأخذ بكل الأسباب فلا تستنكف بذل أقصى جهدك لتحصيلها، فإن (إرادتك التجريد -مع إقامة الله إياك في الأسباب- من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب -مع إقامة الله إيّاك في التجريد- انحطاط عن الهمة العلية)، فليس الأمر مجرد خرق لبعض السنن لعبد من العباد، وإنما الأصل التحقق في مقام العبودية بكل فقرها وذلتها، والرضا بشهود آثار الربوبية بكل ظواهرها.
• لكل وقت من العمر حق ثابت لله ومقام واجب على العبد:
إن من فقه المقام تذكر أن أنفاسك في الدنيا معدودة، وأن الواجبات تتعدد بتعدد الأنفاس، فاحرص على أن تكون في كل نفس تبديه عند المقام الذي يحبه منك، لأن اللحظة التي تمضي ولا تكون فيها وفق مراد ربك في مقامك لن تعود أبداً، ولعلك تقضي صلاة فائتة أو صيام يوم أفطرته بعذر، ولكنك لن تقضي حق ربك الذي ترشحك له صلاتك: في تغيير الدنيا في غير أوقات الصلاة -وهي بقية عمرك-، وهو حق أن وهبك ربك وقت عمرك، فـ(حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها: إذ ما من وقت يرد إلا ولله عليك فيه حق جديد وأمر أكيد، فكيف تقضى فيه حق غيره وأنت لم تقض حق الله فيه؟!)، واعلم أن (ما فات من عمرك: لا عوض له، وما حصل لك منه: لا قيمة له)، لأن الباقي من ما مضى من عمرك هو عملك فحسب، وهو لا يقدر بقدر، فلا تضيع ساعة في غير الكون على مراد ربك في الوقت، عدلاً بين الخلق أو إصلاحاً للحياة.
ويمكن لهذا النَفَس أو لهذه اللحظة أن تكون بداية مشرقة جديدة ترشحك لنهاية مشرقة، فإن (من أشرقت بداياته: أشرقت نهاياته)، وإن (من علامات النُّجح في النهايات: الرجوع إلى الله في البدايات)، فلتكن بدايتك الآن، وبادر للكون في المقام الذي يريده لك ربك ليشرق على قلبك نور الحق، فإن (الأغيار) من شواغل الدنيا التي تصرفك عن مراقبة حالك ومقامك مع ربك لا تنتهي، فـ(لا تترقب فراغ الأغيار، فإن ذلك يقطعك عن وجود المراقبة له، فيما هو مقيمك فيه)، وإن حسن فقهك لمقامك وكونك حيث يريد ربك وحين يريد: طريق للبركة في عمرك، و(من بورك له في عمره: أدرك في يسير من الزمن -من منن الله تعالى- ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة)، فيفتح لك بكرمه من مدد قربه ما يشاء في أمد قصير، و(رب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده، ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده)، فلُمَّ شمل نفسك وشُدّ عزمَك (32)، وابدأ لكي تكون كما يريد حيث يريد، وارتق مدارج سلوك طريق هجرتك إليه.