أما بعد، فحكم ابن عطاء الله السكندري يكسوها جلال من نوع خاص، أصله قلب عرف الله ذا الجلال، فصدرت عنه إشارات على طريق معرفة الحق الأعظم في الوجود، من أرقى ما صدر عمن سوى الانبياء، تحس جلالها بلا تكلف، حيث: (كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز)، وكسوة ق
أنت هنا
قراءة كتاب فقه الهجرة إلى الله في ظلال الحكم العطائية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
• علامات على طريق فهم الاقدار:
عرفت أن ربك يربيك بقضائه وقدره، وأن ثمرات الصلاح والفساد في الأعمال كائنة في تشكيل قدرك القادم في الدنيا مثلما في الآخرة خيراً أو شراً، و(جل ربنا أن يعامله العبد نقدا، فيجازيه نسيئة)، فقدرك يتشَكَّل بك ويُشكِّلُك، وإن لله سنناً لا تتخلف ولا تحابي في معاملته لك، يتقرر بها مصيرك، بل ومصير الأمم من بني آدم، وهي فاعلة حتماً ووعودها قادمة حقاً، فـ(لا يُشَكّكَنّك في الوعد عدم وقوع الموعود -وإن تعين زمنه- لئلا يكون ذلك قدحاً في بصيرتك، وإخماداً لنور سريرتك)، وإن لحصول آثارها سمات يعرفها المتوسمون: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (الحِجْر: 75)، فيعرفون الناس بعلامات يشهدونها فيهم، ويفهمون من أقدار الله ما يفتح الله به عليهم، ومن هذه العلامات مايكون بينك وبين ربك، ومنها ما يكون بينك وبين خلقه، ومنها مايكون بينك وبين نفسك:
فمما تراه مما يكون بينك وبين ربك من علامات أنه: (متى أطلق لسانك بالطلب: فاعلم أنه يريد أن يعطيك) ما تريد، كما يريد، فهو قد (ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك لا فيما تختار لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد)، وذلك من كمال إحسانه إليك ولطفه بك، وأنه لا يرد دعوة داعٍ ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، وكذلك فاحذر أن تكون جاهلا بقدر ربك وتتمادى في غفلتك مع وجود إحسانه عليك، فإن (من جهل المريد: أن يسىء الأدب؛ فتؤخر العقوبة عنه، فيقول: لو كان هذا سوء أدب لقُطع الامدادُ وأوجب الابعادَ، فقد يقطع المدد عنه من حيث لايشعر، ولو لم يكن إلا منع المزيد، وقد يقام مقام البُعد وهو لا يدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد)، فـ(خف من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه: أن يكون ذلك استدراجاً لك: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 182)) (29) .
ومما يكون بينك وبين الخلق أنه: (متى أوحشك من خلقه فاعلم: أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به) (30) ، فمهما صار لك من الأذى من أحب الخلق إليك، فهو علامة لك على فتح باب الأنس بمن هو الأولى بالحب، وأعلم أنه (إنما أجرى الأذى على أيديهم: كي لا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يزعجك عن كل شيء: حتى لا يشغلك عنه شيء)، وهو الأعلم بك، فـ(متى آلمك عدم إقبال الناس عليك، أو توجههم بالذم إليك: فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه؛ فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه، أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم)، وهل من أنس أعظم من تعاملك مع من يعلم السر وأخفى؟، وقد صنعك على عينه، وجاء بك إليه على قدر منه وتدبير؟
ومما يكون بينك وبين نفسك، فاعلم أنه (متى جعلك في الظاهر ممتثلاً لأمره، ورزقك في الباطن الاستسلام لقهره: فقد أعظم المنة عليك)، حين تحقق عبوديتك وتجتهد لتكون كما يحب في كل ما يحب، وتشهد الفضل في ذلك كله: له وحده، وأنك: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران: 128)، وهي كمال منزلة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5).
سادساً: (أين يجب أن أكون؟): (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) (الصافات: 164):
• فقه المقام:
إعلم أنك قد خلقت لأمر معلوم، خصك به ربك دون الخلق، ومثلما أن السماء تـئط من ثقل جنود ربك من الملائكة الساجدين الذين لا يعلمهم إلا هو، وأن كلاً منهم يعرف مقامه، فإن لك في الكون مقاماً خاصاً بحسب حالك: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (البقرة: 148)، ولكل مخلوق مقام عند ربه وعمل وحال: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء: 84)، ولكلٍّ مقام يوم لقاء الله: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (الأنعام: 132)، وقد (تنوعت أجناس الأعمال، لتنوع واردات الأحوال)، ولاختلاف حالك عمن سواك، فإن تحقيق عبوديتك ولتكون عند مراد ربك، يحتم عليك فقهاً دقيقاً (للمقام) وللموضع الذي خلقت له وخلق لك في الوجود، وفقه جنس ما يوافق جبلتك من عمل، وهو متعلق بظاهر ما أودعه ربك فيك وباطنه، و(كل ميسر لما خلق له)، و(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (النور: 41)، فاجتهد لأن تكون حيث أقامك مولاك، و(ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه)، وإن ساعة في العمر تكون فيها وفق مراد ربك في الوقت تختصر عمرك كله، مثلما كانت لعبد صالح قبلك: (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ) (يوسف: 23)، ولأخيه من بعده: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 62)، فاحرص على فقه مقامك وتحصيل ساعة موافقة مراد ربك، لعلها تكون لك خير ما قدمت في كل العمر، ولتكون معيار جزائك على كل ما كان منك من عمل في العمر: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).