أنت هنا

قراءة كتاب عربة قديمة بستائر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عربة قديمة بستائر

عربة قديمة بستائر

أخذ الرواية منحى السيرة، أو ما يشبه سيرة 'العائد'، تصدرها إهداء زقطان لمحمود درويش 'أكتب لأشكرك'، ومقطع طويل من قصيدة درويش 'على محطة قطار سقط عن الخريطة'.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2
لا زوار اليوم
 
كان الخان الأحمر قد أصبح وراءه الآن، انعطف يسارا نحو الدرب الضيق تاركا الطريق السريع ليجد نفسه بمواجهة الوادي، فجأة أحاطت به طاقة المكان وغرابته، التداخل المتقن بين القسوة والاندهاش وما يشبه رحمة عميقة تحيط بكل شيء، رحمة غير مقصودة ولكنها عارفة ومطوية بحرص في مقاطع الصخور والانحدارات المتلاحقة وممرات المجرى المعتمة.
 
بمحاذاة الوادي امتدت طريق ضيقة متعرجة تشرف على المجرى والجدران الصخرية العالية التي تحد جانبيه، ومن العتمة كانت تندفع في تجمعات كثيفة الخضرة الداكنة وتتطاول من الهوة العميقة أشجار قصيرة وشائكة، ومن التجاويف تتدلى جذور عنيدة حيث تنقط المياه تاركة صدى متواصلا في العتمة يمنح المكان صوته الخاص، ولم يستطع أن يتفادى الرهبة التي غمرته عندما لمح، فجأة، الخط الصخري الذي اتكأ عليه دير «السان جورج» المعلق في الحافة الصخرية بقبابه في قلب الجبل تماما مثل أيقونة أرثوذكسية مدللة.
 
سار في الطريق الذي كان طريق المسافرين القديم بين أريحا والقدس، وكان بإمكانه تمييز فجوات الكهوف من عتمتها في تشكيلات الصخور ومنحدرات الهضاب، فكر أن هذه الكهوف هي نفسها التي التجأ إليها الرهبان في سنوات الاضطهاد الأولى للمسيحية، لقد منحهم الوادي بكهوفه وتشكيلات صخوره ووعورته الغريبة وينابيعه العذبة وقوته الغامضة التي تحيط به الآن، الحماية وعزلة التعبد، وبدا ظهوره المفاجئ ومساقط مياهه وصوته العميق المتأني ونباتاته الغريبة وطيوره وأسماكه الطيارة التي نبعت من جوف الزلازل في تلك البرية، الأقرب إلى الصحراء، مثل أعطية إلهية جارية.
 
عندما اجتاح الفرس الوادي في طريقهم إلى القدس قتلوا، كما تشير الرواية، متنسكي الكهوف هؤلاء، كانوا خمسة آلاف راهب مازال الدير يحتفظ بجماجم بعضهم، كان يحاول أن يضع كل ذلك أمامه الآن، الجيش الغازي الذي يصعد الهضاب البيضاء وإدغال الخضرة نحو الجبال متتبعا المجرى المنفعل للوادي منفرا الطيور وثعالب التلال، وصياح الجنود ولهاثهم أمام المغاور ومداخل الكهوف وبوابات الدير وأدراجه، الرهبان في المشهد كانوا الجهة الصامتة، لم يستطع أن يمنحهم صوتا خاصا بهم أو صيحة تذكر بمصيرهم .
 
كان الأمر قد أنجز عندما وصل إلى الأدراج الأولى الصاعدة نحو دير «السان جورج».
 
قبل أكثر من ثلاثين سنة وقف في «جبل التاج»، شرق «عمان»، أمام ملصق علّق على مدخل منجرة، ملصق بالأبيض والأسود يحمل ست عشرة صورة لستة عشر شاباً، يظن أن أصغرهم في الرابعة عشرة، وفوق في أعلى الملصق عنوان عريض: «شهداء معركة وادي القلط»، ثم بخط أصغر تفاصيل المعركة.
 
يعني «وادي القلط» بالنسبة له منذ تلك اللحظة ممراً معتماً يمتلئ بالنباتات القصيرة الشائكة والصخور الجارحة وكان هناك في مكان ما من المشهد صوت رتيب لتساقط مياه في العتمة.

الصفحات