أنت هنا

قراءة كتاب عربة قديمة بستائر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عربة قديمة بستائر

عربة قديمة بستائر

أخذ الرواية منحى السيرة، أو ما يشبه سيرة 'العائد'، تصدرها إهداء زقطان لمحمود درويش 'أكتب لأشكرك'، ومقطع طويل من قصيدة درويش 'على محطة قطار سقط عن الخريطة'.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
كان الأمر بالنسبة له أقرب إلى تأدية أمانة تأخر في إيصالها ولم يعد ممكنا الاحتفاظ بها، والذي يقوده ويدفعه، معا، عناد يشوبه نوع من الاستسلام، وكان يعرف أن عليه أن يصعد «جبل قرنطل»، فيما الكهوف والمغاور ما زالت تتلاحق في المنحدر الشرقي للجبل، كما لو أن المذبحة نفسها تهبط من الرواية وتتبعه. عندما اتجه ببصره إلى الأعلى محاولا أن يتفادى قوة الشمس استطاع أن يتبين غرف الدير الملتصقة بالجدار الصخري ، كان هناك في الأعلى كما تركه قبل اكثر من ثلاثين سنة ، كما لو انه رسم على الجبل بيد طفل.
 
بدأ الصعود من جديد منعطفاً من الشارع المعبد نحو مدخل ضيق ، يؤدي بدوره إلى درب ترابي ممهد بقوة يتسلق الجبل ملتفا حول السفح باتجاه الدير المنحوت في الصخر، كانت الشمس تصعد بموازاته من الشرق، وكان كل شيء يشي بنهار قائظ آخر؛ عراء التلال الأبيض، سطح البحيرة المالحة، كتل النخيل والموز في الأسفل، البيوت الطينية، امتداد الأخدود بين سلسلتي الجبال، وكان ثمة ضباب ازرق يتكاثف في الأعلى ويغطي المشهد البعيد للقدس. كانت أريحا تتجمع تحت بصر الدير مثل انفجار من الخضرة المفاجئة، وكان يفكر بخوفها القديم و بأنها المدينة الأولى التي فكرت بتحصين نفسها.
 
عندما طرق باب الدير، فتحت الكوة الصغيرة، وظهر خلفها وجه شاحب لراهبة يونانية، على الأغلب، قالت باقتضاب شديد:
 
لا زوار اليوم.
 
كل ما أراد أن يراه هو المقبرة؛ مقبرة الدير، حيث يدفن الرهبان الذين بمجرد صعودهم إلى هناك تنقطع، تماماً، صلتهم بالعالم، ويبدؤون مهمتهم الوحيدة على هذه الأرض بتوقع ظهور المخلص في الردهات المعتمة التي تذهب إلى قلب الجبل، بالضبط في الكهف الذي أقيم فوقه الدير، حيث استطاع الناصري أن يهزم الغواية.
 
كانوا يصلون إلى الجبل فرادى متتبعين هدايتهم، متكئين على صلواتهم وامتنانهم المطلق، الامتنان الخالص الذي يأخذهم من أيديهم الممدودة نحو النقطة القصوى في الحياة، هناك حيث يمكنهم الإطلال على الموت والتعايش معه ومصادفته في الممرات الضيقة والغرف المتقشفة وهم يتحركون بخطواتهم الخفيفة ونبراتهم الهامسة.
 
أراد أن يتأكد من وجودها هناك؛ المقبرة، ربما ليكمل رحلة مدرسية قديمة، حين تسلل، فيما يشبه مغامرة، مع عدد من التلاميذ إلى بوابة الدير متسلقين الدرب الضيق من أقصى نقطة في الوادي، كانوا خمسة أولاد، لم ينسَ وجوههم الصغيرة ورؤوسهم الحليقة الخاضعة لنظام مدرسي صارم، لديه صورة احتفظ بها دائماً لطلاب الصف الخامس الابتدائي في نفس العلبة، صورة التقطها الأستاذ إسماعيل للمشاركين في تلك الرحلة، جمعهم تحت شجرة بنسيان ضخمة في أحد شوارع أريحا، والتقط الصورة بنفسه، ثم وزعها عليهم في نهاية العام. يستطيع أن يتذكرهم وهم يقرفصون في الصف الأمامي من الصورة متلاصقين مثل كتلة واحدة برؤوس حليقة وعيون لامعة، وكان هذا يتداخل في ذاكرته مع وجوه الفتية الستة عشر في الملصق، فكر أنه ربما يكون الحي الوحيد بينهم، الآن، الذي يحاول إنهاء تلك الرحلة.

الصفحات