أنت هنا

قراءة كتاب عربة قديمة بستائر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عربة قديمة بستائر

عربة قديمة بستائر

أخذ الرواية منحى السيرة، أو ما يشبه سيرة 'العائد'، تصدرها إهداء زقطان لمحمود درويش 'أكتب لأشكرك'، ومقطع طويل من قصيدة درويش 'على محطة قطار سقط عن الخريطة'.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
لم يفتح الباب أمام طرقاتهم في البداية، لكنهم واصلوا وقوفهم، هناك أمام بوابة الدير، بعناد صبياني تحت شمس قوية أنهكت أجسادهم، إلى أن تآكلت رغبتهم في الدخول إلى مجرد الحصول على القليل من الماء ليطفئوا العطش الذي دهمهم أمام البوابة المغلقة على بسطة الجبل المكشوفة. كانت الشمس في الضحى قوية وساطعة، وكان البحر الميت يبدو من تلك البقعة على السفح مثل مرآة هائلة من النحاس القديم، عندما انفتح الباب وظهر راهب شاب، أخذهم إلى الظل في المدخل، وأحضرت لهم راهبة ظهرت من العتمة زجاجتي ماء، كان الراهب يتحدث العربية بمشقة، وكان لطيفاً، ولم يتوقف عن وضع يده على رؤوسهم الحليقة التي سخنتها الشمس، كان لطيفاً لدرجة يصعب معها طرح أي سؤال عليه، تحديداً عن مقبرة.
 
الراهبة التي أطلت من الكوة بعد ثلاثين سنة، والتي، لأمر ما، يظن أنها يونانية، لم تنتظر ليطرح سؤاله أو ليشرح رغبته، أغلقت الكوة بمجرد أن أنهت جملتها القاطعة:
 
لا زوار اليوم.
 
وكان يمكن أن يسمع في ذلك الصمت المطبق خطواتها المبتعدة في طريقها إلى قلب الجبل.
 
كانت البحيرة هناك، متروكة في السهل بضفافها القاحلة والتماعات الجزر الملحية التي تندفع من الماء الثقيل مثل مشهد قطبي لا معنى له، إلى الشرق كان خط الخضرة الغامقة يحجب التماع النهر ولكنه استطاع أن يخمن منعطفاته الحادة عبر تعرج خط الخضرة وان يتابع مجراه القلق وان يتخيل مياهه بخضرتها العكرة ، وخلفه ينبسط الأخدود قبل أن تترامى سفوح جبال مؤاب، كان المشهد بالنسبة له اقرب إلى درس خرج من كتب الجغرافية والتاريخ ليتنفس في الفضاء المفتوح أمامه، وكان بإمكانه أن يعيد ترتيب الرواية وان يجد لأبطالها طرقا ومسالك في شواطئ البحيرة وممرات مؤاب والوديان التي تدفع مياهها نحو المجرى شتاء، وان يتتبع ببصره التلال البيضاء وهي تتلاحق في صعودها إلى الغرب نحو القدس.
 
كان يقف هناك أمام الكوة المغلقة وحيدا ومكشوفا تماما لشمس الضحى التي تشتد حرارتها ، وهو يحاول أن يتذكر يد الراهب على شعره المقصوص الذي سخنته الشمس، ووقفته هناك قبل أكثر من ثلاثين سنة، دون أن يتمكن من شرح رغبته غير المتحققة في مشاهدة مقبرة الرهبان، التي لم يعد واثقا من وجودها الآن.
 
فكر أنها المرة الأولى التي يصل فيها إلى باب الدير منذ وصوله إلى هنا، رغم أن فكرة الصعود إلى الجبل لم تفارقه، كان يجد دائما أعذارا تؤجل هذه الرحلة، بينما هو غارق في إعادة ترتيب أشيائه التي اكتشف بمجرد وصوله إلى «هنا»، انه لم يهتم يوما بترتيبها أو إعادة النظر في أنحائها، كان يمشي بموازاة ذكرياته التي تتراكم إلى جانبه مثل حصادة نشيطة، وكان يستطيع أن يراهم جميعا وهم يواصلون السير إلى جانبه، الموتى والأحياء، لا احد يموت في هذه القافلة ولا القافلة تصل، المسيرة فقط التي تواصل الحصادة دفع القادمين الجدد نحوها، وهم يحملون أمكنتهم ومصائرهم وأحلامهم وأخطائهم وحيواتهم الناقصة، دائما، وكان الأمر برمته يبدو له أحيانا، مبالغة لا قيمة لها.
 
عندما هبط نحو أريحا عبر وادي القلط، و منذ اللحظة التي تقدم فيها نحو الوادي وبدأت الملامح الوعرة للمجرى تتجدد في المنعطفات الحادة والصخور التي نحتتها مصبات السيول وسننت أطرافها، وصل إليه ذلك الإحساس الذي اعتقد انه فقده منذ وقت طويل، بأنه يتجول في ذكرياته نفسها، وكان عليه أن يعيد ترتيب هذه الذكريات وكائناتها تحت الضوء الذي وهبته إياه تلك الرحلة، وبدا الأمر وكأنه يستعيد ببطء شديد مقتنيات قديمة كان فقدانها يشوش ذكرياته وينسلها مثل حصائر قش، وكان عليه أن يبدأ من مكان ما.
 
* * *

الصفحات