هذه الرواية، تروي مسيرة فردة الحذاء تلك طوال فترة ثمانين عاماً، على أمل أن أتمكن من رواية مسيرة فردة الحذاء الثانية في رواية لاحقة.
أنت هنا
قراءة كتاب أستيك الحاج فياض
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
[4]
دخلنا إلى الغرفة في بيت الطلبة وكان زميلي داخل الغرفة فلما وصلنا استقبلنا بالترحاب وحمل كتبه وذهب إلى قاعة الدرس في الطابق نفسه، فهذه هي العادة المتبعة بيننا نحن الطلاب في الكلية. فإن أتى لأحدنا ضيف يذهب زميله إلى الدرس لإفساح المجال لزميله وضيفه، حتى بدون علم مسبق.
بعد أن خرج زميلي بادرت إلى إغلاق باب الغرفة بالمفتاح وشرعت بتحضير القهوة التركية وعرضت على مايا إنْ كانت ترغب بكأس نبيذ خاصة وأننا لم نتناول نبيذاً على الغداء فاعتذرت رافضة.
حضّرت القهوة وأحضرت الركوة مع فنجانين إلى الطاولة وجلسنا في كرسيين متقابلين وسكبت هي القهوة ورشفت من فنجانها وأعادته إلى الصينية مثنية على حسن تحضيري للقهوة التركية وكأنني تركي أصيل.
فاعترضت على ذلك وقلت لها إنّ ما تسمونه قهوة تركية هو بالأساس قهوة عربية وشرحت لها: أساس القهوة من عدن ومنها أجود أنواع البن ومنها انتقلت القهوة إلى أثيوبيا ومنها إلى البرازيل وكل أنحاء العالم. وشرحت لها بإسهاب طريقة تحضير القهوة العربية وكيف يجري تحميصها «بالمحماص» وكيف يجري طحنها بالجرن الخشبي والموسيقى التي يحدثونها بضرب المدقة الخشبية بالجرن المزخرف بشتى أنواع الزخارف والنقوش وكل حسب إمكانياته فالأمراء يزخرفون الجرن والمدقة بزخرفات من الذهب والأغنياء يزخرفونها بالفضة والعاج ومتوسطو الحال يزخرفونها بالنحاس والناس العاديون يستخدمون النقوش فقط.
يعني أن جرن القهوة كان للدلالة إلى المرتبة الاجتماعية لصاحبه كذلك الحال بالنسبة لأباريق القهوة فهي ذهبية وفضية ونحاسية مع نقوش أو نحاسية عادية بدون نقوش. كذلك الحال حتى بالنسبة للمنقل الذي يضعون فيه الفحم أو بالنسبة للدلّة يخمرون فيها القهوة من يوم إلى يوم أو يومين ثم يعمدون إلى تصفيتها وتسخينها.
القهوة عند العرب لا تؤخذ إلا رشفة واحدة في الفنجان وفي كل مرة تسكب رشفة جديدة حتى يقلب الضيف فنجانه وإنْ لم يقلبه يسكبون له. وإنْ لم يشرب ما سكبوه له يعتبرونه إهانة لهم وقد تدور حروب ومعارك بينهم بسبب التمنع عن شرب رشفة قهوة.
لقد أطلت لها الشرح عن القهوة العربية، كمحاولة لتهدئة أعصابها. فاستغربت كل هذه المعلومات وكذلك كل هذه العادات والتقاليد، لكنّها اعترفت، أنّه إنْ كان الأمر كما تقول فإن القهوة هي فعلاً قهوة عربية وليست قهوة تركية وضحكنا، عندها قلت لها :
ها أنا كلّي سمع فهاتي ما عندك فابتسمت وهزت برأسها وقالت: عشت أنا وأمي بكنف جدي كاليلو طيلة الحرب العالمية الثانية بكل مآسيها وويلاتها. طبعاً أنا كنت طفلة فلم أستوعب لا المآسي ولا الويلات، لأنّني ببساطة كنت أظن أنّ الحياة هي هكذا . أما بالنسبة لهم للكبار فكانوا يعرفون بأن الحياة يمكن أن تكون غير ذلك وأفضل من ذلك. لقد فقدت والدتي زوجها وأخاها اللذين ذهبا إلى ساحة المعركة ولم يعودا. وأغلب الظن أنّهما قتلا في حوض الكاربات أثناء هجوم الجيش الأحمر وقضائه التام على الجيش المجري ويقولون إن قوام الجيش المجري في حوض الكاربات كان زهاء 340 الف مقاتل لم يرجع منه إلى بودابست سوى شراذم لا تزيد عن 20 الف جندي.
لقد ابقوا على جدي ولم يجندوه في الحرب لأنهم أخذوا خالي وأبي أمّا جدي فقد أبرز لهم مستندات بأنّه شارك في الحرب العالمية الأولى وأصيب فيها أيضاً أثناء الحصار على فيينا.
المهم أنّنا عشنا فترة بعد الحرب بالفقر والجوع. جدي كان يعمل سائق جرّار في تعاونية البلدة الزراعية وأمي كانت تعمل مزارعة في الحقول ولتحسين وضعنا المعيشي انتقلت للعمل في معمل في ضواحي بودابست القريبة من هنا. وهناك في المعمل بدأت تنشط في العمل الحزبي داخل المعمل كردّ فعل على مقتل زوجها وأخيها في الحرب بسبب النازيين.
واستمرت حياتنا على هذه الحالة ودخلت أنا المدرسة وتخرجت في المدرسة الثانوية وذهبت إلى جامعة الاقتصاد في بودابست لأنّني حصلت على مجموع علامات جيدة في الثانوية.
وبدأت حياتنا تستقر وأحوالنا المعيشية تتحسن خاصة وأنه لا يوجد في البيت إلا أنا العضو غير المنتج بينما الآخران ينتجان وفي مثل هذه الحالة مهما كان المدخول ضئيلاً فإن اثنين يمكنهما أن يُعيلا ثالثاً وإنْ لم يكن برفاهية تامة. لم ينقصنا شيء. البيت موجود والحديقة لزراعة ما يلبي حاجات البيت من بعض الخضرة والفواكه والإوز والدجاج. كل هذا كان موجوداً وكنا نشعر بالسعادة في كنف جدي وحالنا أفضل من حال غيرنا خاصة وأنّ جدي رجل عطوف جداً عوّضنا عن الأب والزوج والأخ. إلى أن بدأت أحداث 1956. وكنت في السنة الأولى في جامعة الاقتصاد في العشرين من عمري. شهدت على الأحداث والفوضى والقتل والسلب والتي لن أتحدث حولها ولن أقيّمها لا سلباً ولا إيجاباً ولكني أذكر ذلك اليوم نعم ذلك اليوم وليتني لا أذكره اليوم. وبدأت في البكاء وغضّت واعتذرت وقالت لا تؤاخذني مع أنّني صممت أن أتحدث إليك بدون دموع. اتخذت قراري أن أتجرأ على سرد أحداثه بجرأة وبدون دموع ومع ذلك سأسرده بجرأة حتى ولو مع دموع.


