كتاب لقصصي وحكاياتي جمعت فيه بعضاً مما مر بي خلال رحلة الحياة..
أنت هنا
قراءة كتاب أول الوجع
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

أول الوجع
الصفحة رقم: 8
" أول الوجـع "
أبحث عن ماذا؟! وأنا أجوب الشوارع كل يوم أكثر من مرة وفي كل الأوقات صباحاً وظهراً ومساءً وليلاً.. ماذا أريد ولماذا رغم كل هذه الوجوه التي أراها كل يوم عشرات ومئات وآلاف المرات.. لماذا يملؤني الضجر..؟!
ستة أشهر انقضت وأنا بلا عمل حقيقي.. لا عمل لي إلا طبع دعساتِ نعالي على أرصفة المدينة المزدحمة.. غريب أن تكون المدينة بهذه الكثافة وهذا الازدحام ولا أشعرُ فيها إلا بالضجر، ولا أحاول أن أتعرف على أحد.. ستة أشهر وأنا هنا ولم أحاول تكوين صداقة واحدة. كل الذين أراهم وأتعرف عليهم أجلس لمرةٍ معهم او لمرتين وبعدها أجدني أهرب.. منهم.. وأملُّ من أحاديثهم ورواياتهم.. الضجر.. الضجر.. عالمي الذي أعيش فيه.. لا ينشلني منه غير طيف أراه أو صورة من هناك.. أجل ولهذا اخترتُ المكان الذي أجلس فيه كل يوم في قلب المدينة المزدحمة.. لأطلَّ على الشارع الطويل المتراخي كأفعى تحتضر، وأرى على أرصفته عشرات ومئات وآلاف الأجساد تمر أو تعبر الشارع في هذا المكان فقط أنعتق من قيد الضجر وأعيش كل لحظة من لحظاتي وأقفز من الفرح وأطير كفراشة إذا رأيت وجهاً جاء من هناك، لا يهم كوني أعرفه أو لا أعرفه، يكفيني أنه من تلك الوجوه الحبيبة التي تلفحها كل يوم ريح المدينة الخالدة، وإن كنت أعرفه فهي السعادة الحقيقية قد دبت في كل كياني. أنزل إليه وأعانقه، أتعلق به وأكون كطفل تائه وجد أباه أو أمه صدفة في الطريق.. ولا أتركه حتى لو كانت فتاة كائناً من يكون معها لا أتركها لأنني أشعر عندها بأنني جزء لا يتجزأ منها أو أنّها جزء لا يتجزأ مني، ولا أسمح لأحد أن يأخذه مني.. ويا لسعادتي عندها وأنا أجوب نفس شوارع المدينة المزدحمة كل الزهو وكل الفخر وكل العواطف الحلوة الجميلة تسكن داخلي.. وتفرح هي ويزيد فرحي عندما تحدثني عنها عن حبيبتي وكيف أنها تراها كل يوم.. آه يا حبيبتي البعيدة، لكم أتمنى لحظة واحدة فقط أعود بها إليك وبعدها فليأتني الموت.. وليأخذني إلى عالمه الأبدي الساكن.. آه يا حبيبتي لو تأتي اللحظة وأكحل عيني برؤيتك وأنت تختالين في ثوبك الأبيض الرائع.. أعلم أنّه لم يعد كذلك، أعلم أنهم قبضوا عليك بينما كنت تجلسين على الشرفة الحبيبة تنتظرينني، وأعلم أنهم قيدوك.. اغتصبوك.. ومزقوا ثوبك الأبيض الجميل.. آه يا حبيبتي هم فعلوا بك كل هذا وطردوني لأني أحبك.. وحبكِ جريمة بالنسبة لهم، وبالنسبة لي عبادة.. غداً عندما تعودين قولي لها بأنني لا زلت كما أنا قوياً هنا.. قوياً هناك.. لم أنجرف.. لم أنحرف.. ولا زلت أمارسُ هوايتي في التعلق والالتصاق بكل أثر من آثارها، ولا زلت أمارس نفس طقوس عبادتها.. لا زلت أناديها كل ليلة وعند كل طلعة فجر.. وأصلي للقاء.. غداً عندما تعودين قولي لها.. أنني لا زلت على عهدي... وأنّ بعدي عن رفّات جفونها وإن كان واقعاً، فلن يثنيني عن الموت حباً لها وهياماً بها.