أنت هنا

قراءة كتاب مذكرات الجرذان الغريقة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مذكرات الجرذان الغريقة

مذكرات الجرذان الغريقة

رواية "مذكرات الجرذان الغريقة"، للكاتب الأردني وائل رداد؛ الصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، نقرأ من أجوائها:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

الفصل الثالث

كما أخبرتكم سابقا وأنا أحاول انتقاء أكبر قدر من الذكريات الغزيرة والمشبعة بالحقائق, كانت الجرائم التي تحدث ذات أهمية وخطورة لم يسمح الإعلام بتضخيمها.. ظللنا نشهد النشيد الوطني, والبرامج الوثائقية عن طين البحر الميت السحري معالج الأمراض المستعصية, والسياحة في البتراء وأم قيس, ووقائع مهرجان جرش للأزل..
كانت سير الجماعات الإجرامية تتناقلها الألسن فحسب, كالحكايات الخرافية.. سير «أبو طبر» و«العقاقيف» و«أبو شاكوشة» القاتل..
كانت العقاقيف عصابة مقزمة تقوم بسرقة ما خفّ حمله بغض النظر عن ثمنه, عن طريق إيلاج عقافة عبر النوافذ التي أهمل أصحابها إقفالها بإحكام, فيتناولون بأطرافها ما تيسر لهم سرقته, الأمر الذي كان يتم ببراعة وصبر, لم يكونوا من النوع الذي يستعجل رزقه, ويقبلون المكسب الضئيل دائما, الأمر الذي بدا أقرب للطرافة..
أما أبو شاكوشة فلربما سمعتم عنه, كان أسطورة دموية, الرجل الذي حمل شاكوشة أو مطرقة طيلة الوقت, وكان يختار بعشوائية ضحاياه ممن يود إراحتهم من الدنيا, وقد قبض عليه أخيرا وأعدم شنقا..
أما عن أبي (طبر) فقد استمر إجرامه العنيف أمدا طويلا, كان رجلا مخيفا أشبه بعراب مافيا عربي, بدأ صعلوكا وانتهى رجلا يحسب له ألف حساب, لدرجة أنه أحاط نفسه بالرجال من ذوي القدرة والكفاءة الإجرامية العاتية.. كانت بداياته في محل حلويات شرقية, وفي يوم تمت مضايقته من قبل ابن صاحب المحل الأصغر, فاشتعل غضبه وتوعد الصبي بالقتل, فطرد صاحب المحل الرجل.. وهكذا تحول الصبي إلى مطارد من أبي طبر وجماعته, فصار خروجه نادرا, وإذا تم فبحراسة أبناء عمومته وأخواله..
ليس التحرش بأبي طبر فكرة حسنة على كل حال..
وفي يوم الجمعة عقب انتهاء الصلاة, ولدى مغادرة المصلين المسجد, كنا نلمح (القبرصي) آتيا كالطاووس المتبختر كعادته, لسان حاله يقول: تركت لكم دينكم واعتنقت ديانة أخرى تبيح ما أصنعه!..
كان قوادا غير معلن, يتاجر بأجساد زوجه وابنته وحتى والدته!.. وحين يخرج إلى السوق لا يرتدي سوى شورت رياضي وقبعة من قش, ليس القبرصي باسمه, نحن ناديناه بالاسم لكثرة أسفاره إلى قبرص, حيث الشواطئ الرملية الأنظف من شواطئنا نحن العرب ـ حسب قوله ـ بألف مرة, والقاصرات المثيرات بأزياء البحر الفاضحة..
أذكر ذات مرة أنه دعانا ـ نحن الأربعة ـ إلى وجبة جنسية دسمة على حسابه, فسخر (سوار) منه قائلا:
ـ لكننا أربعة يا قبرصي فما العمل؟..
ضحك الرجل المكتنز صاحب البشرة البرونزية المقززة قائلا:
ـ بسيطة!.. الحرمة لواحد, والبنت لواحد, والنواحة ـ أمه ـ لواحد.. وأنا لواحد!..
ضحكنا معه ولعناه في سرائرنا كألعن شيطان..
الباعة يفترشون الأرصفة لبيع الخضار والفاكهة.. أما الصغار الذين لا يجدون موردا فيلجئون إلى ابتكار أرزاقهم الخاصة, واحد يعد الشاي بالميرامية ويبيعه على سبيل المقهى المصغر, آخر يحمل ميزانا محاولا إغراء البدينات بتفقد أوزانهن.. أشفق أكثر من أي وقت مضى على أولئك المساكين الواهمين أنهم يحملون قدراً من الأهمية بالنسبة للآخرين, وهم ليسوا سوى أصفار على الشمال, الحالمين الصغار بالحياة السعيدة, وأن في ذلك حقيقة لابد وأن تتحقق يوما..
عملنا أربعتنا في أحد دكاكين الحلو مدة قصيرة, صاحبه رجل طيب ميسور الحال لدرجة امتلاك ثلاثة أفرع من دكانه في جرش وعجلون والمفرق.. لا أعلم يقينا سر امتلاء دكاكين الحلو بالزبائن كأنها مقاه أو مطاعم, الكل يريد كنافة كالصغار, الكل يلتهم الكنافة كالمحرومين, اليوم تجد الشاب وقد أصيب بسكري مبكر من فرط التهام الكنافة الناعمة أو الخشنة الممزوجة بلتر من القطر..
أحيانا كان (سوار) يستغل غياب صاحب المحل كي يستعين ببعض التعساء الذين فقدوا بعض حواسهم باكرا في أوقات الشدة الضروس, شبان لم يعد لهم سمع أو لسان أو حتى عقل يفكرون به, يعانون الإعاقة الأزلية المريرة.. كان (سوار) يستعين بهم لتنظيف المحل بمباركة أكثرية الشغيلة, واعدا إياهم ببعض قطع الهريسة إن أتموا العمل بسرعة, فكانوا يتكاثرون على المماسح ودلاء الماء, يدلقونه على ثيابهم بأكثر مما يدلقونه على الأرضية..
أحيانا يغضب (جبريل) ويبادر بطردهم.. (جبريل) كان رجلا عظيم البنية, غير غافل عن آخرته رغم هيئته التي لا تفضح إيمانه المتشدد, كان رجولي الوسامة مهذب الشعر مشذب اللحية, من يراه يحسبه من مرتادي المهرجان بانتظام, ينصت للأغاني ويدندن عليها, كما أنه حفر اسمه بسكين على كتفه الأيسر راسما ندبة دائمة كديدن الشغيلة, وعندما يحين وقت الصلاة يسارع بإطفاء المسجلة, والاستئذان من صاحب المحل في الذهاب للمسجد القريب..
كنا ذات مرة نعمل على تنظيف الموائد عندما دخلتا المحل, بنتان من بنات حواء الملاح أوقفتا الزمن بدخولهما المتبختر وضحكاتهما الماكرة, كان بإمكاني سماع الأنفاس المترددة بين الضلوع بيسر!.. ولما صعدتا جناح العوائل همس (سوار) في أذني بتخابث:
ـ هاتان صنعتا جوا للمحل!.. ما رأيك؟..

الصفحات