ذاكرة الماء محنة الجنون العاري؛ لا شيء في هذا الأفق، لا شيء أبدا، سوى الكتابة وتوسّد رماد هذه الأرض التي صارت تتضاءل و تزداد بعدا كل يوم. وهل للماء ذاكـــرة؟
هذا النصّ يجهد نفسه للإجابة عن بعض مستحيلاته بدون أن تخسر الكتابة شرطها.
قراءة كتاب ذاكرة الماء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ذاكرة الماء
القسم الأوّل
الوَرْدَةُ وَالسَّيْف
(1)
4H - 00 MN
الظلمة.
أشعلت الضوء الخلفي للصّالة. شرّعت النافذة عن آخرها. خيط من الهواء البارد يتسرب عبر جسدي بهدوء.
لا شيء.
أمام هذه الكومة من الأوراق، والقصاصات الصحفية القديمة، لم أعد أتذكّر شيئاً مهمّاً سوى ما قالته العرافة لأمّي منذ أكثر من أربعين سنة، وقبل شهرين من ميلادي. كانت أمّي حاملاً بي. كانت تخطّ لها الأوشام على زندها وجسدها ووجهها وساقيها. قالت لها وهي تكتشف توازن جسدها بعد ولادات متعددة.
ـ اسمعي يا لالّة مولاتي. بطنك حمل ثلاث صبيات، تلاحقن الواحدة بعد الأخرى. قبل أن يكون رابعك صبيّاً. خامسك، أبشرك، سيكون صبيّاً جميلاً، يعشق حروف الله والكلمات وتربة الأولياء الصالحين. سَمِّيه باسمهم حتى لا يسرقوه منك مبكراً. تصدّقي كثيراً وإلاّ سيموت بالحديد.
ـ أي حديد؟؟
قالت أمّي.
ـ سكّين. رصاصة. سيارة. طائرة.
ضحكت أمّي وقتها كثيراً، وعندما كبرتُ قصتْ عليّ تفاصيل الضحكة.
ـ مجنونة العرافة. الرصاص انتهى مع الثورة. الطائرة بعيدة عنّا وهي للذين يعرفونها ويملكون خير الدنيا. والسكّين للجزارين. وأنتَ هو أنتَ، جميل كالنوار وطويل كالنخلة.
وها هو الزمن الميّت يعود، ويمتلئ رأسي بالسكاكين والرصاص والطائرات التي أركبها مجبراً، والحديد الذي أصبح حقيقة قائمة تملأ الدماغ.
ينتابني شيء من التردّد ضد الكثير من الأشياء الغامضة.
ماذا أفعل؟
هل سأبقى مرّة أخرى داخل هذا القفر الذي اسمه البيت؟ أم سأخرج؟
مسألة في غاية الحماقة. هناك شيء غامض يربطني بهذه الأرض وهذا المكان المعزول. ربّما حفنة تراب ما زلت أحتفظ بها وأرْحَل كلما كان ذلك ممكناً، أشمّ رائحتها وأشعر أن لي وطناً، حتى عندما يُسرق منّي هذا الوطن.
أقنع نفسي من جديد.
يجب أن أخرج، لأني لو بقيت هاهنا، سيكون كلّ الزمن الذي مضى من حياتي لا قيمة له، لكن !؟
إذا خرجت وانحدرت باتجاه المدينة، ستكون غوايات الشوارع قد قادتني نحو الموت.
في الليلة التي مضت، أو في ربعها الأخير (لأني لم أنَمْ إلاّ ساعات قليلة)، رأيت أشياء كثيرة في الحلم، أشياء محزنة: داستني سيارة فمزّقتني، ولكنّي في النهاية، استطعت أن أقوم مثل طفل متهور بعد أن جمعت نفسي، قطعة قطعة ثم قمت. واستطعت أن أقف على قدميّ، بالرغم من الصعوبات والاستحالات. رأيت منشاراً يقطّعني مثل قطعة خشب، وأنا أضحك بصوتٍ عالٍ وأُقهقه مثل المجنون. رأيت ذاكرتي وأنا أضعها أمامي مثل العلبة المسحورة. كنت متردّداً بين فتحها أو عدم فتحها. في النهاية صمّمت على اقتحام سرّها. قفزت من داخلها حمامات وغربان ثم بحر أزرق وألوان رمادية وروائح وعطور، وأحجار وأتربة صفراء ورقيقة مثل حبّات الرمل.
ورأيت كابوسا آخر، أحسّ تفاصيله ولكنه يستعصي عليّ الآن تذكره.
وعندما أفقت في هذا الصمت المبكّر، لم أرَ سوى بياض الحجرة ودكنة هذا الفجر، والبحر الذي خلته وسط هذا السواد منكفئاً على نفسه مثل شبح معزول ومفرط في وحدته، لم يبرح مكانه، رغم أن الشمس غيرت مواقعها آلف المرّات.
لا شيء. سوى أنا وريما والبحر والساعة الحائطية الثقيلة، ووقوقات نادرة لنوارس خلتها تحوم فوق تكسرات الموج الذي كان يتذابح في ذاكرتي. وهذه الكومة من الأوراق القديمة التي أشعر برغبة نادرة في قراءتها أو في توديعها. فهي كلّ حياتي وبعض من تمزقات هذه البلاد.