ذاكرة الماء محنة الجنون العاري؛ لا شيء في هذا الأفق، لا شيء أبدا، سوى الكتابة وتوسّد رماد هذه الأرض التي صارت تتضاءل و تزداد بعدا كل يوم. وهل للماء ذاكـــرة؟
هذا النصّ يجهد نفسه للإجابة عن بعض مستحيلاته بدون أن تخسر الكتابة شرطها.
قراءة كتاب ذاكرة الماء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ذاكرة الماء
قبل أن أصمّم وأقوم من دفء الفراش، كانت الساعة الحائطية ذات العقارب الفسفورية تزحف بصعوبة نحو الرابعة وأنا أحاول جاهداً أن أقنع نفسي بضرورة القيام.
للذهاب إلى أين؟
ربّما نحو الموت.
- Merde!? Il faut que je me leve!
ثم تدحرجت بعدها خارج الفراش.
عندما نصر على النوم بعينين مفتوحتين، نتعب كثيراً.
تأملت رزنامة البرنامج اليومي، المعلقة على الباب. البريد، المطبعة، المطعم، الجنازة. ثم العودة. عشرون عصفور بحجرة واحدة، تفادياً للخروج المجاني والموت العبثي.
فتحت رزمة الأوراق. بعثرتها قليلاً على الطاولة الكبيرة. أشياء كتبتها في فترات متقطعة وقصاصات صحفية مهمّة كنت قد قصصتها لحاجة لم تأتِ أبداً.
عادة لا أكتب إلاّ عندما تجتاحني حالة ألم شفافة. عندما غادرت بيتي للمرة الأخيرة باتجاه هذا المخبأ، لم آخذ معي شيئاً مهمّاً، سوى بعض الكتب، والاشرطة، ولوحة لسلفادور دالي، وهذه الكومة من الأوراق التي أخاف عليها من قساوة هذه المدينة.
بدأت أوّرق.
فجأة قفزت أمامي هذه القصاصة.
ابتداءً من الأسبوع القادم، سيشرع في تطبيق النظام الأسبوعي الجديد. وعليه سيصير يوما الخميس والجمعة، هما نهاية الأسبوع، بدلامن يومي السبت والأحد. تمّ هذا التغيير بالاتفاق بين مختلف الوزارات والمجلس الإسلامي الأعلى. جريدة الشعب )...) 197
منذ أن اغتيل صديقي يوسف، فنان هذه المدينة وشاعرها، أصبحت لا أنام بشكل جيد. أشعر برغبة محمومة للعودة نحو الأعماق. نحو الطفولات الضائعة. نحو الحبر الأوّل ونحو رائحته ولونه البنفسجي. نحو القبلة الأولى. نحو الأشواق الأولى، وحتى نحو الدّمعة الأولى التي لم نستهلك حرارتها بعد، لكن الشعور الذي يجتاحني في البدايات الأولى لهذا اليوم، لا يريحني مطلقاً.
منذ أن انتهى الكابوس الذي رأيته في هذا الفجر وأنا أحاول بدون جدوى أن أغمض عينييّ.
هاه !! تذكرت المشهد الأخير للكابوس الذي غاب عنّي.
الساحة كانت ملأى بالناس الذين يرتدون أقمصة بيضاء، فضفاضة وعليها بقع الدم اليابسة، يلتفّون ويصرخون مثل المجاذيب حول جسد ممزّق، كانوا يرجمونه عن قرب بحجارة كبيرة ويرشقونه بالسكاكين. شظايا المخّ واللحم، تلتصق بالقضبان الحديدية الصدئة التي كانت في أيديهم. كنت أرى ذلك الرجل، أو بقاياه من شرفة الطابق الخامس حيث كنت أقيم قبل أن أنتقل نحو هذا البيت الذي صار يشبه قبراً يسكن به رجل يبدو أنه ما يزال على قيد الحياة. كانت الجثة الممزقة تشبهني.
كانت، أنا .البحر الذي أشعر بحالة استئناس لوجوده، صار غير موجود مطلقاً وكأنه غادرهذا الفضاء الضيّق. لا أسمع صوت تكسراك موجه إلاّ قليلاً. أقول في خاطري، لا بدّ أن يكون البحر قد رَحَل نهائياً عن هذه المدينة. أتشجع في أغلب أوقات الوحدة، وأخرج بحثاً عنه وعن الموجات الضائعة، وعن الوقوقات النادرة لنوارس ليلية أتخيّلها وهي تنقر بياض الموج المتكسّر على أطراف الصخور البركانية، في هذا المكان المعزول.
أترك الأوراق للحظة.
أفتح الباب والنوافذ. أملأ صدري برائحة البحر. أتمتم.
ـ الحمد لله. البحر ما يزال هنا!! البحر لم يَمُتْ.
الظلمة ما تزال قائمة .
وريما، حمامتي الصغيرة وسط هذا الخراب، ما تزال نائمة على غير عاداتها منذ بدأت هذه المدينة تأكل رأسها بشكل معلن.
القطّ الأبيض هذا الفجر لم يظهر، وهو الذي تعوّد أن يتشمم رائحتنا من بعيد، ويصغي بانتباه إلى أصوات الأواني في المطبخ، ليبدأ في المواء معلناً عن وجوده، ولنفتح له الباب للدخول. هذا القطّ تعوّد على لطف ريما معه بسرعة. فاطمة، صديقتنا التي تأوينا، هي نفسها لا تعرف من أين جاء. دخل معنا في اليوم الأوّل الذي وضعنا فيه حقائبنا عند باب فاطمة.
ريما تعودت عليه، وتعوّد هو على يديها الصغيرتين وهي تقوم فجراً، لتعطيه الحليب، وتعود لتندفن في فراشي، أمّا هو، بعد أن ينتهي من شرب حليبه، يتشمم رائحتها، يدخل بين رجليها وينام. لا أسمع إلاّ ترترته التي تعطي للنوم لذّة خاصة.
ريما نست دميتها الكبيرة، ونست ألعابها منذ الزمن الذي أعقب تنقلاتنا وخروجنا من البيت. ترحل مثل الكبار. لا تأخذ معها إلاّ كراستها الصغيرة التي كتبت على غلافها: سلطان الرماد. لا أدري من أين أتّتْ بهذا العنوان أصلاً. تسجّل فيه خواطرها عن الأصدقاء الذين اغتيلوا هذه السنة.
حياة الترحال قاسية، ولكنها ليست مستحيلة التحمل.
كلّ شيء بدأ عندما واجهتني ملامح رجل مشبوه. شعرت بظله. عندما التفتُّ نحوه عند مدخل البناية قرأت بعض غموضه. ارتبك. أدخلتُ يدي في جيبي. كنت أتحسس قطعة نقدية باردة وكان يظنّني أتحسس سلاحاً. ارتشقت عيناه بجيبي. قال بنوع من التلعثم.
ـ سألت شباب الحيّ. فوجهوني نحوك. كنت أعمل سائقاً لسيارة أجرة، عند شخص، تخلّى عنّي وأنا الآن بدون عمل. فهل تستطيع مساعدتي للحصول على عمل.
تماسكت جيداً.