ذاكرة الماء محنة الجنون العاري؛ لا شيء في هذا الأفق، لا شيء أبدا، سوى الكتابة وتوسّد رماد هذه الأرض التي صارت تتضاءل و تزداد بعدا كل يوم. وهل للماء ذاكـــرة؟
هذا النصّ يجهد نفسه للإجابة عن بعض مستحيلاته بدون أن تخسر الكتابة شرطها.
قراءة كتاب ذاكرة الماء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ذاكرة الماء
ثم قلت في خاطري. واجبي أن لا أتركه في منتصف الطريق. وإذ كان يبشرني بخروجه القريب من المعتقل، وبجدية علاقته مع ثريا قلتُ له.
ـ إني حامل.
ارتبك لحظة ثم تماسك.
ـ منذ شهور
ـ لا يعقل.
ثم بدأ يحسب على رؤوس أصابعه ويُقْسِمُ برأس والديه. أنه ليس هو، وأنه لن يعترف بالصبي الآتي، لأنه سيخرب كلّ مشاريعه مع ثريا. كان يتحدث ووجهه ملتصق بالحائط القديم. ثم التفت نحوي.
ـ مع من ؟
ـ يخصّني. جئت لأخبرك لا لأحاسبك.
التمعت عيناه بالفرح أو بالحقد. لا أدري. ثم أفرغ كلّ ما كان في خاطره. حررته من داخله. شتمني، اتهمني بكل الأوصاف. لم أردّ. كنت أرثي لحاله، وكان يدرك ذلك. ثم صمت كمحرّك عاطل.
سألني مرّة أخرى عن الكائن الذي كان يربطني بك ويكبر في بطني كالقمحة.
ـ هل هو باختياركما.
ـ لا. من رجل طروبادور، ما دُمْتَ مصرّاً على أن تعرف. التقينا في ندوة عربية لا معنى لها كالعادة سوى أنّا التقينا. كان حارّاً مثل عود النوار، وكنت أكتشفه كمن يدخل موجة، ثم بحراً، ثم.... ثم نمنا في نزل يشبه القلعة.
تحسس شعراته البيضاء وقسمات وجهه المتعبة.
ـ معه تحملين، ومعي ترفضين.
ـ لا أدري. بيني وبينك المهمّ تكسر قبل أن يأتي هذا الرجل الغاوي المولع بالموسيقى والكتب، والحروف والأبجديات الضائعة. الكثير مما كان يجمعنا أنا وأنتَ كان مزيفاً. كنّا نبني أحلاماً صنعوها لنا سلفاً.
ـ هل لأن الأنظمة سقطت، يجب أن نسقط نحن كذلك؟
ـ يا ولد الناس أنا لا أعرف السياسة، بل أحياناً أمقتها. ولكنّي أعرف أن كلّ ما بني على الخراب، يحمل في تكوينه شيئاً من الخراب.
ـ وهل هو على علم بذلك.
ـ هو الذي أقنعني بضرورة العودة إليك ومساعدتك قدر المستطاع. وعندما أخبرته بالأمر، جاء من بعيد راكضاً وهو حزين. عندما سألته لماذا جئتَ؟ وأنا على حافة الصراخ في وجهه.
قال.
ـ أنا أحبك وأخاف عليك. قلبك رهيف جداً على وضع مثل هذا.
فرحت لأنه لم يُعطني إجابة أخرى كالتي أسمعها دائماً. المجتمع صعب؟ الوالدان لا يقبلان؟! لكن... والوجاهات الزائفة. ولو فعل غير ذلك، كنت أسقطت الجنين. حرمني من هذا المبرّر الذي كنت أبحث عنه في أعماقي.
كنت في حاجة ماسة إلى رجل يحبني بقلبي المتعب، ولا يفكّر في مكاني. رجل واسع الصدر، لا يتذكر كلما رآني، الماطْلاَ العسكري والمخدع، ويصمت بعدها، أو يحدثني عن تاريخ الحرب الأهلية في أمريكا، والصراعات الدولية حول نيكاراغوا، والفيتنام، والاتحاد السوفياتي. في حاجة إلى كائن أبسط من كلّ هذه الأمور. يحدثني عن أشيائه الصغيرة. عن طفولته المدهشة. عن مدينته البحرية. تقول لي دائماً أني لستُ مسيّسة.
لم أدّعِ ذلك. لست مهيأة أبداً لأن أكون قائدة كبيرة. أفهم مثل جميع الخلائق، أننا عندما نتحدث عن الثورة، يجب أن نحسها في أعماقنا وأن نمارسها في تفاصيل حياتنا، أولاً ضد تخلّفنا الذي ينام في أعماقنا كالبرك الآسنة، وإلاّ لا معنى للكلمات. أشعر أنه وراء الخطابات الكبيرة، يختبئ كذب كبير ووراء الأشياء الصغيرة والعفوية بداهات يجب أن نتعمقها، وأن نتقن التصرّف معها.
وضع رأسه بين يديه. كان كالحطام القديم، ثم صرخ بأعلى صوته:
ـ أخرجي.