أنت هنا

قراءة كتاب إيقاع العودة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
إيقاع العودة

إيقاع العودة

رواية "إيقاع العودة"؛ سيطر عليّ إحساس غريب لم أعرف ماهيته، كثير من الوجع يلازمني، وقليل من الملل يحاصرني، وعيناي مسكونتان بالتعب، أشعر بخدر كثيف يتسرب داخل جسدي، سرحت مع أزيز الطائرات المسائية، همست في أذن الليل قائلة: «تعال يا ليل خليك معايا عايز أشكي ليك

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

طقوس الحضور

ظلام كثيف يطوق خاصِرة هذا المساء المغلف بالسواد الذي يلف كل شيء؛ المدينة لا تزال غارقة في صمتها الأزلي. قد انكمشت حول نفسها وبدت أشبه بسيمبيريا المدينة الإغريقية الأسطورية التي لم تر النور، وأضحت كأنها في عزلة وانقطاع تام عن العالم.
بصمة سكون عميقة مختومة بحبر الصمت على جوف الليل، قطرات مطر تتدفق على مهل في عرض النهر، هل لا أزال أحلم وأحلم...
سرب حمام أبيض يحلّق في الأفق اللازوردي، ويراقب تفاصيل ذلك المشهد. جسدي خفيف يعلو ويهبط كالريشة في كبد السماء، يتصبب ماء من جسدي كأني خارجة تواً من عمق النهر، أتحسس ببطء قسمات وجهي بأطراف أصابعي حتى أطمئن أنني خرجت من ذلك الحلم.
عيناي تائهتان في الفراغ الليلي، تحملقان في الظلام الحالك، باحثتين عن بقعة ضوء وسط تلك العتمة. الليل لا يزال سيد الموقف يمارس طقوس سكونه الأزلية بشهوة عالية ومزاج رائق، وترانيم الصمت في الغرفة تعزف ألحان الخرس الأبدي على مسرح الفراغ. كان الهدوء يعم المكان لدرجة يمكن أن أسمع دقات قلبي بصورة واضحة.. تكاد الساعة تمضي بانتظام وتصدر صوتاً رتيباً ملّت الأذن سماعه المتكرر.. بدأت الصور والمشاهد تتضح شيئاً فشيئاً، ورحت أتمعن في سقف الغرفة الغارق في متاهات البياض..
تناهى إلى سمعي صوت مقطوعة سوناتا ضوء القمر لبيتهوفن منبعثة عبر زوايا الغرفة، فعلمت أن الساعة الخامسة صباحاً، موعد استيقاظي المعتاد من النوم.. صوت ريح خفيفة تسرب عبرالنافذة المطلة على الحديقة المجاورة.. تفاصيل كثيرة وذكريات تنساب حولي وتحوم في الفراغ الشاسع بلا تردد، تتداخل المشاهد والأفكار في مخيلتي، والهواجس تتقافز حول ذهني.. وخز الألم يذكرني بوجوده داخل جسدي في كل ثانية.. حاولت بجهد أن ألملم بقايا جسدي المنهك من التعب، فشعرت بصداع حاد، ورغبت في تناول فنجان قهوة.
كانت المدينة قد خرجت تواً من فصل الشتاء البارد، وودعت حالة البياض التي عمت كل جزء فيها بعد انتهاء تلك الفترة المحملة بالثلوج، لم يتبق في ذاكرة الناس سوى مشاهد متفرقة للأطفال الصغار، وهم يمرحون ويتراشقون بكرات الثلج منذ الصباح حتى المساء، يصنعون من الثلوج تماثيل وأشكالاً مختلفة.. لا شيء يوقفهم عن اللعب سوى التعب، سرحت مع تقلب الفصول والطبيعة الساحرة التي كنت أتأملها كأني أراها للمرة الأولى.
تنساب موسيقى مقطوعة الدانوب الأزرق ليوهان شتراوس.. موسيقى عذبة تتسرب داخل الروح، وتمنح النفس إحساساً مريحاً وبهيجاً يعطر المكان بكل جمال وألق.. يختلط المشهد برائحة الألوان وطعم الذكريات وسيرة الحنين الذي لا ينضب حتى تكاد الروح أن تصل إلى ذروة النشوة والسعادة القصوى.. عند أول تباشير الفجر لمحت اللوحة المعلقة على الجدار.. ضوء ينسكب على وجه ذلك الأسمر ذي القامة العالية وهو يحدق بعينيه إلى العوالم البعيدة كأنه يبحث عن سر لم يجد له جواباً على كوكب الأرض.
بالقرب من تلك اللوحة مشهد آخر لفتاة جالسة تحت شجرة نخيل عالية، وهي مستغرقة في العزف..ها أنذا جالسة وحيدة شاردة الذهن أتسكع بين خلايا روحي بذاكرة مرهقة حتى التعب، أتأمل عزلتي بحكمة ديك وأقاوم وجعي بصبر حصان.
كلما يشتد وخز الألم على المرء يصبح الجسد عدواً للإنسان.. وتصبح الحياة نفسها عبئاً ثقيلاً لا يطاق.. لم يعد ذهني يحتوي الكثير من الأسئلة.. أصبحت في كثير من الأحيان أستيقظ دون أن أنهض وأغفو دون أن أنام، تعتريني حالة شبه متكررة من الكسل.. تعبي أثقل من جبل وخيالي لا يزال متخماً بالعديد من الأفكار والصور المتفرقة.
أيتها الجدران هل ستذكرينني بين أزقة صمتك السرمدي.. الذي تتداخل فيه الكلمات بالألوان والمشاهد الضاجة بالأصوات الداخلية؟
قلت لنفسي لو أنّ يدي ساعدتني قليلاً، لرسمت هذا الخواء الفسيح في لوحة بيضاء وأسميتها «أبجدية الفراغ».. عيناي المرهقتان تنظران بشغف وتمعن شديدين إلى السقف الأبيض والجدران الصامتة.. كم من القصص والحكايات الطويلة حفظتها هذه الجدران وخبأتها في جوف ذاكرتها المعدنية.. دفق وحشود من التعابير فرح، حزن، صخب، آهات، جنون، وجع، أنين، صراخ، دموع، شوق، صمت وصبر بلا حدود.. كم أحسدك على سكونك أيتها الجدران الصامتة! فلا شيء يعنيك البتة من هذا الوجود الملتبس والواقع المرهق.
وقفت عند شرفتي المطلة على الأفق الفسيح أستنشق، بعمق، رائحة الأشجار والأزهار المغسولة بزخات المطر.. ضوء الفجر الناصِع ينبلج وينساب عبر النافذة، أمسكت بالورقة والقلم وكتبت بقية نص مؤجل لبعض الأفكار التي تسللت إلى ذهني في تلك اللحظة..

الصفحات