أنت هنا

قراءة كتاب التائهون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التائهون

التائهون

رواية "التائهون"؛ "في التائهون، أستلهم فترة شبابي بتصرف شديد. فقد عشتُ تلك الفترة مع أصدقاء كانوا يؤمنون بعالم أفضل. ومع أنَّ لا شبه بين أبطال هذه الرواية وبين أشخاص حقيقيين، فهم ليسوا من نسج الخيال تماماً.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

اليوم الثاني

1

اتصلت زوجة مراد بآدم فجراً على هاتفه الخليوي. قالت له بجفاء ظناً منها أنه لا يزال في باريس، بدون مقدِّمات، بل بدون أن تمهد لكلامها بعبارة «آلو«:
«لم يستطع أن ينتظرك».
كانت العتمة لا تزال تلف الغرفة. أطلق آدم صفير شتيمة، ثم أبلغ محدثته بأنه قد وصل منذ البارحة وهرع، نزولاً عند طلبه، لرؤيته.
غير أنها رددت بالاندفاعة نفسها:
«لم يستطع أن ينتظرك».
الجملة نفسها، حرفياً، إنما بنبرة مختلفة، خالية من العتب هذه المرة، يشوبها الأسى والغضب وربما شيء من الامتنان لآدم. فتمتم عبارة معهودة.
وأعقبت ذلك، على هذا الطرف وذاك من الخط، ثوانٍ من الصمت. ثم قالت له الأرملة ببساطة: «شكراً!»، وكأنها ترد بتهذيب على تعزيته. ثم استفسرت عن المكان الذي يبيت فيه.
«سأرسل لك سيارة. لن تعرف أن تصل بمفردك».
لم يعترض آدم. كان يدرك أنه لم يعد يعرف أن يهتدي السبيل في هذه المدينة التي لا توجد في شوارعها لوحات بأسمائها، ولا أرقام، ولا أرصفة، وأحياؤها تحمل أسماء عمارات، والعمارات أسماء أصحابها...
السبت 21 نيسان
كانت تانيا قد لبست الحداد. وسُجي مراد بهدوء على ملاءات ليست فيها ثنية واحدة، وسُدَّ منخراه بالقطن. خُصِّص له جناح كامل – غرفتان متاخمتان، وصالون، وشرفة. المستشفى من رخام وكافور. المكان المناسب للموت كالكلب الأصيل.
أقف عند أسفل السرير ولا أبكي. أحني رأسي أمام الجثمان، وأغمض عيني، لا أحرك ساكناً، وأنتظر. يفترض بي أن أتأمل، ولكن في ذهني خواء. سأتأمل لاحقاً، سأستحضر ذكرياتي عن صداقتنا الراحلة، وفيما بعد سأحاول أن أتخيل مراد السابق. أما هنا، أمام الجثمان، فلا شيء يحضرني.
حالما أسمع خلفي وقع خطى، أنتهز الفرصة لأفسح المجال لغيري. أتوجه نحو تانيا، أعانقها باقتضاب، ثم أمضي للجلوس في الصالون الذي لم يكن صالوناً بكل معنى الكلمة. ثلاث أرائك جلدية، آلة لصنع القهوة، قناني مياه معدنية، وتلفاز مكتوم الصوت. ولكن ذلك من قبيل الترف في مستشفى. كانت أربع نساء متشحات بالسواد بالإضافة إلى رجل مسن لم يحلق ذقنه قد جلسوا قبلي. ألقي عليهم التحية بإيماءة من رأسي، وأتهاوى في المقعد الوحيد الشاغر. لا أتأمل بعد، لا أفكر في شيء. أحاول فقط أن أرسم على وجهي التعبير الملائم لهذه المناسبة.
ألمح أشخاصاً آخرين يصلون، كما في وفد، فأنهض وأقف مرة أخرى أمام الجثمان، وأقبل تانيا مجدداً وأهمس لها : «أراك لاحقاً!». أخرج من المستشفى أحث الخطى، وكأن زمرة من الكلاب تقتفي أثري.
حين أجد نفسي في الشارع، وحيداً وسط المارة، هادئاً وسط الضجيج، ترتد أفكاري أخيراً نحو ذاك الذي فارقته على فراش الموت.
أستحضر نتفاً من أحاديث، وضحكات، وصوراً. أفكر بأشياء كثيرة متبعثرة ولا أتوقف عند أي منها فيما أمضي قدماً. يعيدني بوق سيارة إلى أرض الواقع. أومئ برأسي، وأفتح الباب، وأذكر للسائق اسم الفندق الذي أنزل فيه. يخاطبني الرجل بالإنكليزية، فأبتسم وأتضايق في آن واحد. أجيبه بلغتي التي هي لغتي الأم، إنما بلكنة خفيفة دون شك. ولكي يعتذر لأنه جرح كبريائي كمغترب، يروح يشكو أحوال البلد وزعماءه، وينطلق في مدح استفزازي للأشخاص الذين تحلوا بما يكفي من الذكاء لكي يرحلوا.
اكتفى آدم بأن أومأ برأسه تهذيباً. في ظروف أخرى، كان سيشارك في الحديث، فالموضوع يعنيه. ولكنه كان مستعجلاً للاختلاء بنفسه، والانزواء في غرفته، والبقاء فيها على انفراد مع ذكرياته عن ذاك الذي لن ينطق بعد اليوم.
فور عودته إلى غرفته، تمدد على السرير وظل مستلقياً على ظهره وقتاً طويلاً. ثم نهض، وتناول مفكرته، وخربش فيها بضعة سطور، ثم قلبها، كما ليدشن، من الجهة الأخرى، مفكرة ثانية، جديدة.
على الصفحة البيضاء الجديدة، في أعلاها، في الموضع الذي يدوِّن فيه عادة التاريخ، كتب: «في ذكرى»، بمثابة نقش أو ربما بمثابة صلاة. ولم يكتب فيها شيئاً آخر. ثم انتقل إلى الصفحة التالية.
مراد، الصديق الذي تخليت عن صداقته.
فرقنا الموت قبل أن يصالحنا. والذنب ذنبي قليلاً، وذنبه قليلاً، وهو كذلك ذنب الموت. بالكاد بدأنا بوصل ما انقطع حين أخرسه فجأة.
ولكن المصالحة حصلت عملياً. لقد أعرب عن رغبته برؤيتي، فركبت أول طائرة، ولكن الموت سبقني. ولدى التفكير في الأمر، ربما من الأفضل أن الأمور جرت على هذا النحو. فللموت حكمته الخاصة، ولا بد في بعض الأحيان من تفويض أمرنا إليه عوضاً عن تفويضه لأنفسنا. ماذا كان سيقول لي صديقي القديم؟ أكاذيب، وحقائق زائفة. ولكنت تظاهرت بأني أصدقه وأغفر له لئلا أبدو عديم الشفقة مع شخص يُحتضر.

الصفحات