رواية "التائهون"؛ "في التائهون، أستلهم فترة شبابي بتصرف شديد. فقد عشتُ تلك الفترة مع أصدقاء كانوا يؤمنون بعالم أفضل. ومع أنَّ لا شبه بين أبطال هذه الرواية وبين أشخاص حقيقيين، فهم ليسوا من نسج الخيال تماماً.
أنت هنا
قراءة كتاب التائهون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
2
كان آدم مستغرقاً في ذكرياته، حين رن الهاتف في غرفته. كان المتصل ابن أخ تانيا، يتصل به من طرفها ليسأله إذا كان يود أن يلقي كلمة في مأتم مراد، «باسم أصدقاء الطفولة».
أمام تردده، رأى الآخر أنه من المفيد تعداد أسماء الشخصيات التي ستتعاقب على المنصة للكلام. ولدى سماع كل اسم تقريباً، كانت ترتسم على وجه آدم تكشيرة، إنما لم يجد في نفسه وقاحة الرفض القاطع نظراً للظروف. كان يبحث عن الكلمات الملائمة حين أضاف الشاب: «سيكون الموعد يوم الأربعاء الساعة الحادية عشرة صباحاً!». فانقض آدم فوراً على هذا التوضيح العابر كخشبة خلاص وقال إنه يستحيل عليه للأسف البقاء في البلد حتى ذلك التاريخ نظراً إلى أنه مرتبط بامتحانات طلابه في ذلك اليوم بالذات.
وسيعترف في ذلك المساء في مفكرته: «إنها كذبة محضة. فمنذ شباط الماضي، أنا في نصف سنة سابعة ولست مرتبطاً بمحاضرات أو امتحانات قبل شهر تشرين الأول. غير أني لن ألقي كلمة تأبينية في مأتم مراد لقاء أي شيء.
لأي سبب؟ لم يكن بوسعي القول في لحظتها. فلقد باغتني الطلب، وبدر مني أول جواب تفوَّه به فمي.
أثق عادة باندفاعي لا لأنه لا يخطئ، بل لأني لاحظت، على مر السنين، أني كنت أخطئ في الأغلب حين أطيل التفكير، وأحاول أن آخذ المسببات والنتائج في الحسبان، أو الأسوأ من ذلك، حين كنت أستعرض في ذهني، في عمودين متناظرين، الحجج المؤيدة والحجج المعارضة.
ولذلك، أميز اليوم بين أسلوبين في التفكير. في الأسلوب الأول، رأسي يعمل مثل القدر؛ يحيط بكل العوامل في آن واحد، «يحتسبها» بدون علم مني، ثم يسلمني دفعة واحدة النتيجة النهائية. وفي الأسلوب الآخر، يعمل رأسي مثل أي سكين مطبخ عادي، ويعمد إلى تقطيع الواقع بواسطة مفاهيم تبسيطية مثل «المحاسن» و«المساوئ»، و«العاطفة» و«العقل»، فيزيدني فوق حيرتي حيرة.
كم من مرة اتخذت قرارات مفجعة لأسباب وجيهة! أو على العكس، أفضل القرارات رغم أنف المنطق السوي!
فتوصلت إلى القول إنه من الأفضل أن أقرر أولاً، في لمح البصر، ثم أخوض بأناة وروية في قرارة نفسي لأفهم هذا الخيار.
وفي ما يتعلق بالمأتم، لم يطل بي الأمر حتى أبرر، لنفسي على الأقل، رفضي العفوي، وبالتالي، تخفيف ندمي.
نظراً إلى سلوك مراد خلال السنوات الأخيرة، لا سبب لدي للمشاركة في ما سيقدم له من تكريم، ولو كان ذلك بعد رحيله. فتقديم التعازي كما تقتضي اللياقة لدى وفاة شخص عرفناه أمر مختلف عن الإيحاء بأن المرء قدم من باريس خصيصاً للكلام في مأتمه، وسط حلفائه السياسيين، وشركائه في أعماله التجارية، وعرابيه والمدينين له على السواء. فكل هؤلاء الأشخاص الذين لا بد أن صديقي السابق عاشرهم في حضيض الحرب أعرف حق المعرفة بأي أساليب أصبحوا من أصحاب النفوذ والأثرياء. ولا أريد أن أتبعهم أو أن أسبقهم في الكلام على المنصة، ولا أرغب حتى بمصافحتهم.
وإذا كنت قد رحلت عن البلد، فبالضبط لئلا أضطر لمصافحة تلك الأيادي!
بعد دقائق معدودة، اتصلت الأرملة بنفسها، لكي تلح عليه. ألا يستطيع إرجاء سفره حتى نهاية الأسبوع؟ فأكد رفضه، مكرراً الكذبة نفسها، بصورة قاطعة، بل وفظة بعض الشيء، تجنباً لأي ابتزاز عاطفي.
«آسف! أنا مضطر للسفر. فطلابي بانتظاري».
خيَّم صمت ثقيل. خانت تانيا الكلمات لإقناعه، وخانته الكلمات للاعتذار. وأخيراً، قالت، وقد سلَّمت بالأمر على ما يبدو: «أتفهَّم ذلك...وعلى أي حال، لن أنسى أبداً أنك ركبت في أول طائرة لكي تأتي وتراه».
وسرعان ما تأججت حرقة الندم لدى آدم بسبب هذا الموقف اللطيف، لا إلى حد إقناعه بالعدول عن رأيه، إنما بما يكفي ليشعر بالحاجة لتعويض غيابه عن المأتم بمبادرة ودية.
«أنوي الكتابة إلى أصدقائنا المشتركين لإخطارهم بما جرى. وأنا على ثقة أنهم سيرغبون بالتعبير لك عن مودتهم. ألبير، ونعيم، وغيرهم...».
فوافقت أرملة مراد: «أجل، أكتبْ لهم! انقطعت أخبارهم عني منذ سنوات. أعتقد أنهم سيحزنون حين يعرفون».
«بالتأكيد!».
«من المستحب أن يتسنى لنا جمع شمل جميع الأصدقاء القدامى إحياءً لذكراه. في نيسان المقبل مثلاً، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى. أتظن أنهم سيأتون؟».
«ولم لا؟».
«بل بوسعنا أن ننظم هذا اللقاء في موعد أبكر. بمناسبة ذكرى الأربعين مثلاً».
وفقاً لتقليد قديم توارثته مختلف الطوائف المشرقية، يجري إحياء لذكرى الميت بعد أربعين يوماً على وفاته. تراءى لآدم أن الموعد يبدو قريباً للغاية لاستدعاء الأصدقاء، ولكنه لم يشأ معارضة الأرملة.
«إذا كانت هذه رغبتك، بوسعي أن أقترح عليهم ذلك».
«وأنت، هل ستعود عندئذ؟».