أنت هنا

قراءة كتاب التائهون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التائهون

التائهون

رواية "التائهون"؛ "في التائهون، أستلهم فترة شبابي بتصرف شديد. فقد عشتُ تلك الفترة مع أصدقاء كانوا يؤمنون بعالم أفضل. ومع أنَّ لا شبه بين أبطال هذه الرواية وبين أشخاص حقيقيين، فهم ليسوا من نسج الخيال تماماً.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

ما القيمة التي كان سيكتسبها، في هذه الظروف، لقاؤنا المتأخر وغفراننا المتبادل؟ في الحقيقة، لا قيمة على الإطلاق. ويبدو لي ما جرى أكثر لياقة ومهابة. لقد شعر مراد، في ساعاته الأخيرة، بالحاجة لرؤيتي، فسارعت بالمجيء، وسارع هو بالرحيل. وفي ذلك شيء من اللباقة التي تشرِّف صداقتنا الغابرة، وهذه الخاتمة ترضيني.
ولاحقاً، إذا كانت هناك حياة ما بعد اللحد، فسيكون لدينا الوقت للمصارحة. أما إذا لم يكن هناك سوى العدم، فلن تعود لخصومات كائنين محكومين بالفناء، في جميع الأحوال، أهمية تذكر.
في ذلك اليوم الذي شهد وفاته، ماذا بوسعي أن أفعل من أجله؟ فقط ما تمليه عليّ اللياقة: أن أستحضر ذكراه بسكينة، فلا أدينه ولا أغفر له ذنوبه.
لم نكن صديقي طفولة. ترعرعنا في البلد نفسه، وفي الحي نفسه، إنما ليس في المحيط نفسه. تعارفنا فقط في الجامعة – إنما بسرعة فائقة، منذ مطلع السنة الأولى.
في بداية صداقتنا، كانت تلك السهرة. كنا، على ما أظن، حوالى خمسة عشر شخصاً، والشباب يفوقون البنات عدداً بقليل. لو طلب إلي أن أستحضر قائمة بأسمائهم، لنسيتُ بالتأكيد بعضهم. هو وأنا؛ وتانيا، بالطبع، تانيا التي لم تكن قد أصبحت زوجته بعد ولكنها سرعان ما ستصبح كذلك؛ وألبير، ونعيم، وبلال، وسمي الجميلة؛ ورمزي ورامز ، «الشريكان» و«المتلازمان»، أو بكل بساطة «الرمزان» كما كنا نلقبهما... كنا ندخل إلى الحياة الطلابية، بيدنا كأس، وفي قلوبنا تمرد، ونظن أننا ندخل إلى حياة الراشدين. كان أكبرنا سناً يشارف على الثالثة والعشرين؛ وبسبعة عشر عاماً ونصف العام، كنت الأصغر سناً؛ ومراد يكبرني بعامين.
كان ذلك في تشرين الأول 1971، على شرفة بيته، وهي شرفة فسيحة يرى منها المرء البحر في النهار، وأضواء المدينة التي تتلألأ في الليل. أذكر نظرته في ذلك المساء – نظرة منبهرة، مترعة. فذلك البيت ملك له، وكان من قبل ملكاً لأبيه وجده، وجد جده، بل جدوده، فقد شيِّد في مطلع القرن الثامن عشر.
وكانت أسرتي بدورها تملك فيما مضى منزلاً جميلاً في الجبل، ولكنه كان بيتاً عائلياً وبياناً معمارياً بالنسبة إلى أهلي، أما بالنسبة إلى أهله، فكان بيتهم وطناً. وقد شعر فيه مراد على الدوام بشيء من الامتلاء، بامتلاء الناس الذين يعرفون أن البلد ملك لهم.
أما أنا، فلطالما تملكني الشعور، منذ بلغتُ الثالثة عشرة، وأينما حللتُ، بأني ضيف. غالباً ما يستقبلني الآخرون على الرحب والسعة، وأحياناً بالكاد يتقبلونني، ولكني لا أقطن في أي مكان لأن ذلك من حقي. كنت على الدوام مختلفاً، غير متأقلم – اسمي، نظرتي، هيئتي، لهجتي، انتماءاتي الحقيقية أو المفترضة. غريباً كنت على نحو لا براء منه. على تراب الوطن، ولاحقاً، في أرض المنفى.
في تلك الأمسية، رفع مراد صوته، في لحظة من اللحظات، وهو يسرِّح نظره بعيداً.
«أنتم أعز أصدقائي. وهذا البيت بيتكم. إلى الأبد!».
علت بعض الدعابات، والضحكات، إنما فقط لإخفاء التأثر. ثم رفع كأسه، وأسمع رنين مكعبات الثلج فيها. فرددنا بدورنا: «إلى الأبد!». بعضنا بأعلى صوته، وبعضنا الآخر همساً. ثم ارتشفنا مشروبنا معاً.
رقرقت عيناي بالدموع. وحين أفكر بذلك اليوم، ترقرقان بالدموع من جديد، وما بيدي حيلة. تأثراً، وحنيناً، وحزناً، وغضباً. كانت لحظة الأخوة تلك الأجمل في حياتي. ومنذ ذلك الحين، مرت الحرب من هنا، ولم يسلم منها بيت أو تسلم منها ذكرى. لقد فَسَدَ كل شيء، الصداقة، والحب، والإخلاص، وصلات القربى، والإيمان، كما الوفاء. وكذلك الموت. أجل، اليوم، حتى الموت نفسه يبدو لي ملطَّخاً، مشوَّهاً.
لا أكف عن القول «تلك الأمسية»، على سبيل الإيجاز فحسب. فقد كانت هناك سهرات لا عد ولا حصر لها في الفترة التي تعارفنا فيها، تنحصر الآن في ذاكرتي بسهرة واحدة. ويبدو لي أحياناً أننا كنا دوماً متلازمين، مثل زمرة مشعثة الشعر، لا نعود إلى كنف أسرنا إلا لاستراحات وجيزة. لم تكن تلك هي الحال حقاً، ولكن ذلك هو الانطباع الذي خلفته لدي، لا ريب لأننا كنا نعيش معاً اللحظات المؤثرة والأحداث الكبرى، لنفرح بها، ونستنكرها، وبالأخص لنتشاجر بشأنها. يا الله كم كانت تحلو لنا المناقشة والمجادلة! كم كنا نزعق! كم كنا نتخاصم! ولكنها كانت مشادات نبيلة. كنا نعتقد بكل صدق أن بوسع أفكارنا تغيير مجرى الأحداث.
في الجامعة، وللتهكم من مجادلاتنا المتواصلة، أطلق علينا لقب: «البيزنطيون»، على سبيل الاستخفاف؛ وبغرض التباهي، اعتمدنا هذا اللقب، بل لقد خطر ببالنا أن نؤسس «أخوية» تحمل ذلك الاسم. ولكثرة ما طال نقاشنا للأمر، لم تبصر هذه الأخوية النور قطّ، وراحت، بالضبط، ضحية «بيزنطيتنا». كان بعضنا يحلم بأن تتحول شلتنا إلى مجمع أدبي؛ وبعضنا الآخر يفكر بحركة سياسية، تبدأ في صفوف الطلاب ثم تنتشر في المجتمع بأسره؛ وفريق ثالث كان يداعب تلك الفكرة الجذابة التي أوضحها بلزاك على طريقته في «قصة الرجال الثلاثة عشر»، ومفادها أن بعض الأصدقاء القلائل إنما المخلصين لقضايا مشتركة، والحاملين طموحاً مشتركاً، حفنة من الأصدقاء الشجعان والأكفاء، ولا سيما المتلاحمين التحاماً وثيقاً، بوسعهم أن يغيروا وجه العالم. وأنا بدوري، كنت أؤمن بذلك. وفي الحقيقة، يحدث لي أحياناً، حتى اليوم، أن أداعب وهم الطفولة ذاك. ولكن أين أجد مثل تلك الزمرة؟ عبثاً بحثت ونقبت، فلا شيء على هذا الكوكب سوى الخواء.
وفي نهاية المطاف، لم تتحول شلتنا، شلة الأصدقاء، لا إلى أخوية ولا إلى مجمع، ولا إلى حزب ولا إلى جمعية سرية. وظلت لقاءاتنا غير رسمية، ومفتوحة، عامرة بالشراب، عابقة بالدخان، صاخبة. لا تعرف التراتبية، وإن كنا نلتقي دوماً بمبادرة من مراد، وعادة، في بيته، في الضيعة، على شرفة بيته القديم.
من ذلك الموقع المعلق بين الساحل والجبل، سنشهد نهاية العالم. «العالم؟» عالمنا، على أي حال، نهاية بلدنا كما عرفناه. وأجرؤ على القول : نهاية حضارتنا. الحضارة المشرقية، وهو تعبير ينتزع ابتسامة من الجهلة وصرير أسنان من أنصار الهمجيات المنتصرة، وأتباع العشائر المتغطرسة التي تتناحر باسم الإله الواحد، والتي لا تعرف عدواً أسوأ من هوياتنا المعقدة.
كان أصدقائي ينتمون إلى جميع الطوائف، وكل واحد منهم يرى أن من واجبه، ومن قبيل الغنج والدلال، أن يسخر من طائفته – ثم بشكل لطيف، من طوائف الآخرين. كنا صورة تخطيطية للغد، ولكن الغد ظلَّ صورة تخطيطية. فسيترك كل منا نفسه يساق، تحت حراسة مشددة، إلى سجن عقيدته الإيمانية الملزمة. كنا ندعي بأننا أتباع فولتير وكامو وسارتر ونيتشه أو السورياليين، فرجعنا مسيحيين أو مسلمين أو يهوداً، وفق مذاهب محددة، وسجل يضم وفرة من القديسين، وما يرافق ذلك من ضغائن ورعة.
كنا شباباً، وكان ذلك فجر حياتنا، وكذلك غروبها. فالحرب تقترب، تزحف نحونا، مثل السحابة الإشعاعية؛ ولم يعد بوسعنا أن نوقفها؛ بل بوسعنا فقط أن نلوذ بالفرار. بعضنا لم يشأ قطّ أن يسميها باسمها، ولكنها كانت حرباً بالفعل، «حربنا»، تلك التي ستحمل اسمنا في كتب التاريخ. كانت مجرد نزاع محلي آخر بالنسبة إلى سائر العالم، وبمثابة الطوفان بالنسبة إلينا. كان بلدنا بآليته الهشة يغرق، وقد بدأ يصيبه الخلل؛ وسوف نكتشف، على مر الطوفانات، أن من الصعب إصلاحه.
ومن الآن فصاعداً، سترتبط السنوات في ذاكرتنا بالمآسي. وبالنسبة إلى حلقة أصدقائنا، برحيلنا الواحد تلو الآخر.
نعيم أول من رحل، مع جميع أهله، أبيه وأمه وشقيقتيه وجدته. لم يكونوا آخر اليهود في البلد، ولكنهم ينتمون إلى القلة القليلة منهم التي كانت حتى ذلك الحين تريد البقاء. ولقد شهدت الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين نزفاً صامتاً. فقطرة تلو الأخرى، وبدون ضجيج، اضمحلت هذه الطائفة. بعض أبنائها رحل إلى إسرائيل عبر باريس، أو اسطنبول، أو أثينا، أو نيقوسيا؛ وبعضهم الآخر اختار الاستقرار في كندا، أو الولايات المتحدة، أو إنكلترة، أو فرنسا. وقد اختار نعيم وأسرته الاستقرار في البرازيل، إنما في فترة متأخرة نسبياً، عام 1973.

الصفحات