رواية "نور القمر" للروائية السودانية أميمة العبد الله، هذه الرواية التي غزت العالم العربي ولم تستطع كاتبتها الحصول إلا على ثلاثة نسخ منها؛ رواية تمرّد نصها الروائي على مستوى الشكل، واعلن تمرده على أشكال وطقوس السرد كما تمارس في حضرة السلطة والثقافة السائدتي
أنت هنا
قراءة كتاب نور القمر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
أبي كان مسؤولاً عن قبيلته كلها، هو أيضا خرج منهكا من تلك الحروب . وعندما كانت تلك المرأة الحنون تضمني إليها في كل لحظة كان من أتي بها غائبا، ساعيا في دروب الله طلبا للرزق، كانت هي عالمي.
القصة بدأت عندما خرجت أسرة أبي كلها عصر أحد أيام شتاء قارس، كان ذلك حسب ما ذكرت أمي بعد خمسة أعوام من موت القائد العظيم الذي ألحق الهزيمة بالجيوش البريطانية. سرنا في مجموعات، البرد يرجّف أطرافي النحيفة، كنا حوالي عشرين امرأة، سرنا مسافات طويلة في خلاء بلا نهاية أو هكذا بدا لي، تصر تلك المرأة الحنون على حملي.
وأنا أحكى الآن قصتي اعتقد أن عطف أمي الزائد كان لفقدها كل إخوتي، تملك قدرا مدهشا من الحنان الذي لم ينفد طيلة بقائنا معا، لم نكن نملك الكثير من الطعام لكنها كانت تصنع طعاما من العدم حتى لا أجوع، من لحاء الشجر، الدقيق المجفف، عظام الأرانب البرية وبعض ثمار الخلاء المرة، من جلد حيوان ميت صنعت لي حذاء، كانت تتحرك كفهد وتعمل بطاقة مدت إليها مباشرة من السماء، تحملت عبء الرحلة الأعظم.
اتخذنا أكثر الطرق خفية حتى لا نقع في أيدي الإنجليز فيعيدوننا إلى حيث كنا، كل من قرر الالتحاق بابن ذلك القائد ترصده الإنجليز وكان نصيبه إما الأسر أو إعادته من حيث أتى.
أظن أنني كنت في الثانية من عمري، أمضي معهم ناقمة ساخطة، لكن لولا هذه الرحلة بالذات لما صرت كما أنا الآن بذلك الزخم الكثيف من الأحداث والذكريات. للحياة مناحي كثيرة وطرق بعضها يكون حاسما في حياة الشعوب والأفراد. قرار الهجرة للحاق بابن ذلك القائد صاحب أصدق دعوة لتحرير شعبه – كما سأحكي لاحقا – كان منعطفا هاما في حياتي.
وصلنا جزيرة الفيل، كانوا أكثر بؤسا وفقرا منا، لكنهم فرحوا بنا، وكان من قطعنا الخلاء لأجل اللحاق به طفلا في الثالثة عشرة من عمره . لكن مهلا يبدو أن شكله الضئيل ذاك مخادع، لم أحتجْ للكثير من الوقت لاكتشف أن الطفل ذاك هو سيد قومه بما يحمل من علم وورع وتقى وأدب جم،كأنه ولد به، سكنا قربه وزرعنا مع قومه، الكل ملتحمين بالأرض يكدحون، لا أحد يجلس ساكنا، كنت أنظف مع أمي الحقل من الحشائش عديمة الفائدة التي تتطفل على زرعنا، أمي مع بقية النساء يدفنَّ البذور ويعتنين بها، يحفرن الجداول لضمان وصول الماء، صرنا نزداد في كل يوم حبا للعمل، ارتبطنا بالأرض كفلاحين نعمل طيلة النهار إلى أن تبدأ الشمس في الاختفاء .
كان السيد الصغير – سألقبه بهذا الاسم إلى أن يزداد طولا – قلت كان السيد الصغير يختفي أياما، علمت بعدها أنه كان يذهب لتلقي دروسٍ في الفقه وعلوم الدين في مكان بعيد . من المؤسف أنني علمت بذلك متأخرة لأنَّ تعلمي المبكر للكتابة والقراءة كان سيوفر عليّ ما أبذله الآن من جهد لتذكر التفاصيل البعيدة لأنّني حتماً ودون شكّ كنت سأدون حتى التافه من الأمور لأنني أحببت الكتابة فور تعلمي لها.