رواية "نور القمر" للروائية السودانية أميمة العبد الله، هذه الرواية التي غزت العالم العربي ولم تستطع كاتبتها الحصول إلا على ثلاثة نسخ منها؛ رواية تمرّد نصها الروائي على مستوى الشكل، واعلن تمرده على أشكال وطقوس السرد كما تمارس في حضرة السلطة والثقافة السائدتي
أنت هنا
قراءة كتاب نور القمر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
لم يكن سيدي رجلاً، كان شعبا ووطنا للجميع بما تحمله نفسه وروحه، زرع في قلوب سكان الجزيرة الود والمحبة واستأصل بقعة الشر من قلوبهم واحداً تلو الآخر، كنا في كنفه نبني حياة استثنائية عندما وقعت حادثة عظيمة من الصعب إغفالها، دخل الإنجليز الذين يحكموننا ويتربصون سيدي خامدين أي شعلة لإحياء ذكرى والده القائد أو حتى الخوض في حديث عن دعوته تلك التي هزت عرشهم.
دخلوا في حرب شملت كل الدنيا ضد ألمانيا وحلفائها - ذلك هو بالضبط ما أخبرنا به سيدي وقتها – قال الحاكم العام أعلن ضرورة سندنا لهم مع دولة أخرى قريبة أظن أنها مصر، هذه الحرب غيرت كثيرا من تعامل الإنجليز مع سيدي وأتباعه وطبعا لا بد من الإشارة لسبب هذا التغير فهو حتما لم يأت من فراغ ولا بد أن يحتملني القارئ هنا لأنَّ ما سأسرده يعود لتاريخ بعيد.
دخلت تركيا الحرب العظيمة تلك إلى جانب ألمانيا، ما شكل خطرا سياسيا كبيرا لدولة حكومتنا، دخول تركيا وهي دولة مسلمة يعني الدعوة الواضحة لكل الدول المسلمة للانضمام أيضا يعني ضرورة استجابة الخليفة العثماني للجهاد المقدس، لكن الدولة العثمانية في ذلك الوقت كانت تنوء من وزر الدسائس وحياة المجون التي يعيشها بعض أولي الأمر منها، ما دعا الحاكم العام لبلدي إلى حتمية الطواف على أقاليم البلاد المختلفة داعيا لتأييد سياسة بلاده وموضحا أن تركيا لم تدخل الحرب دفاعا عن الإسلام والمسلمين وإنما تبعية لألمانيا، ذلك هو ما جعل الحاكم العام يتسامح قليلا مع سيدي، شيء آخر لعبت الصدفة فيه دورا غريبا – هذه الأمور لم يكن سيدي يشغلنا بها لكنه كان يتدارسها مع المقربين من شئون السياسة، وكنت أنا كالعادة أحرص على خدمته لأكون قربه، أجلس ساعات دون حراك.
في تلك الأيام وقبل وقوع الحرب قالوا أن الحكومة الإنجليزية أمسكت بأحد أتباع رجل ثريّ كان يناصب سيدي العداء الواضح يحمل خطابا يناصر فيه ألمانيا وتركيا ويحث الآخرين على مناصرتهما.
بالنسبة لنا نحن البسطاء البعيدين عن كل ذلك أثرت الحرب فينا عند وقوعها بطرق غير مباشرة، إذ إنَّها أدت إلى قطع المواصلات التجارية فانقطع تبعا لذلك ورود الفحم الحجري القادم من أوروبا البعيدة، لذا استنفر سيدي الجميع لقطع الأخشاب من غابات الجزيرة والتي كان لدينا الكثير منها، لأنَّ الحكومة احتاجت للوقود ولم تكن تملك إلا اللجوء لسيدي لسد حاجتها الملحة، هذه الصفقة درت على جميع العاملين ربحا عظيما، كانت المراكب تعبر النيل محملة بالخشب، ومن ثم تنقله اللواري للخرطوم، أعطى سيدي كل حقه وأخذ نصيبه الذي كان وافرا. لم يكدر صفو احتفالاتنا تلك إلا مرض أمي والذي استعصى علاجه، كانت تعاني آلاما رهيبة في بطنها، توقفت عن الأكل إلى أن هزل جسدها، غارت عيناها وأصابها إسهال بلون الفحم بعد ذلك أصبحت تخرج من بطنها دما عن طريق الفم. توفيت بعد شهرين فقط من ظهور هذه الأعراض بهدوء ومبتسمة، لكم أحببتها وسأحبها دائما، عاشت حياة مرهقة متعبة، حياة فقر، وغياب زوج معظم شهور العام وسط أبناء هم على الدوام مرضى، ودّعتهم جميعا وحدها، دفنتهم بصمت وإيمان . تحدت الفقر بصنع طعام من كل ما تقع عيناها عليه، موتها كان كارثة بالنسبة لي، بكيتها بصمت كما علمتني،الكوارث العظام أحيانا لا ينفع معها العويل، صمتي كان عميقا عمق حزني، تغلبت عليه بتحمل المزيد من الأعباء التي لم يكلفني بها أحد، كنت في الحادية عشرة تقريبا أو العاشرة لا أدري بالضبط، لكنها كانت سنة وقوع الحرب العظيمة، لذا أنا أتخذها مرجعا لتاريخ ميلادي، على العموم اخترت أن أكون في العاشرة العمر الأقل، هذه عادة نسائية.