رواية "نور القمر" للروائية السودانية أميمة العبد الله، هذه الرواية التي غزت العالم العربي ولم تستطع كاتبتها الحصول إلا على ثلاثة نسخ منها؛ رواية تمرّد نصها الروائي على مستوى الشكل، واعلن تمرده على أشكال وطقوس السرد كما تمارس في حضرة السلطة والثقافة السائدتي
أنت هنا
قراءة كتاب نور القمر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
عندما يكون الشخص منّا صغيرا في عمره يستعجل الزمن أحيانا ليصير صاحب عمر وتجربة، وأنا كنت أسعى لأن أصبح امرأة ناضجة، من المضحك أن المرأة عندما تكون في عمري الآن أي في العقد الثامن فإنها تتمنى لو أنها كانت أصغر قليلا.
سنين طوالا أمضيناها على الجزيرة تلك، حفظت خريطة شوارعها عن ظهر قلب، أعرف معظم سكانها، أتجول عادة في الوقت الذي يسبق الغروب بقليل، أزور البيوت، ألاعب الأطفال، أمازح الشيوخ، كانوا يتقبلونني بطيبة نفس متناهية لاعتقادهم بأني قوية، تحملت فراق أمي وأنا في عمر مبكر، صلبة أحتمل المصائب بظهر من حديد، لم أنطو على ذاتي بعد موت أمي أيضا لم أبالغ في الحداد كما ظن الجميع فقد كنت لصيقة جدا بها، حقا كانت أمي قدوتي فهي امرأة صالحة زاهدة في الدنيا، حكيمة، كنت طوال اليوم أتحرك كنحلة ولا أسكن لنفسي أبدا حتى لا تهتاج دموعي، أساعد الجميع دون طلب منهم، يكفي أن أرى امرأة تطحن دقيقا حتى أهرع إليها، أجلب لها الماء نصنع معا عجينة الخبز، أجلس أمام الفرن – كان سيدي قد بنى لنا عدة أفران من الطين بارتفاع قليل عن سطح الأرض وسقف يشبه نبتة عش الغراب – ندخل فيها عجينة الخبز المقطع إلى أجزاء دائرية صغيرة لنخرجه بعد دقائق بلون ذهبي ورائحة مميزة، بعض الرجال لا يترددون في التهامه فور خروجه من الفرن وبسخونته تلك، أيضا أتقنت صناعة الخبز المعجون بالكمون ذي الرائحة النفاذة، كنت أخترع وجبات غذائية بمواد محلية غاية في البساطة كصناعة فطيرة محشوة بالبصل والطماطم وطهو الأرز بشوربة اللحم، وقد كان لدينا دوما فائض أرز، أيضا كنت أخيط مرايل للأطفال حديثي الولادة وأرقع البالي من ثياب النساء حتى أمد من عمرها قليلا، كنا لا نستغني عن البالي بسهولة، ولا أدري أكان ذاك لفقرنا أم لحساسيتنا الزائدة في الاحتفاظ بالمقتنيات القديمة، كنت أنوّع في البهار المضاف لشاي صباح سيدي أحيانا الهبهان أو القرفة أو النعناع أو الحلبة، وكان يبتسم كلما تذوق طعمه ووجده مختلفا نوعا ما، بصري دوما يترقبه أينما ذهب، سمعي يلتقط كل نداء منه، شديدة اللهفة لحفظ كل ما يقول وتعلمه، أردّد عباراته، أحفظ جمله، الفضول النهم الذي رافقني لم يتركني أبدا بسلام، لقد حقق هذا الرجل ما أراد بتروٍّ وحذر، أحسن تقدير نفوس أعوانه ووظف طاقاتنا البشرية دون هدر رغم أن الجميع كانوا على استعداد للعمل ليل نهار فقط إن أمر سيدي، لكن سيدي لم يكن يأمر البتة، سيدي كان صبورا يقول لكل شيء أوان، حكيما، شجاعا، وهذه الصفات رافقته حتى القبر، يشرف على كل كائنات الجزيرة الحية ابتداء بالمواشي والخيول مرورا بأقفاص الدجاج إلى متابعة أحواض الزراعة وحقول القطن والقمح، كل ذلك يتفحصه بدقة، انتهاء بنا، يحرص على متابعة شئوننا وقضاء حاجتنا، كان يهتم جدا بالقراءة ومتابعة أخبار العالم والحرب البعيدة وكتب القانون.