رواية "نور القمر" للروائية السودانية أميمة العبد الله، هذه الرواية التي غزت العالم العربي ولم تستطع كاتبتها الحصول إلا على ثلاثة نسخ منها؛ رواية تمرّد نصها الروائي على مستوى الشكل، واعلن تمرده على أشكال وطقوس السرد كما تمارس في حضرة السلطة والثقافة السائدتي
أنت هنا
قراءة كتاب نور القمر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
- أدرس كل ذلك حتى لا أترك لأعدائي ظهري مكشوفا.
سمعته مرة يقول ذلك لأمه.
في تلك الفترة كنت أتفتح كزهرة عباد الشمس، لبشرتي لون اللبن الرائب، عيناي لهما لون العسل، أتمدد إلى الأعلى كنخلة،نحيفة، ولي جمال مستتر لا يلحظ إلا بعد حين، أعمل كثور وآكل كطفل، سيدي كان يمازحني:
- تشبهين النخلة لكن بصفات صقر.
أحيانا يقول لي:
- جمالك الخفي هذا سيرافقك حتى القبر.
- هل تظنني سأموت فتية محتفظة بصلابة عظمي؟
- بل ستعمرين، حدسي يقول ذلك لكن جلدك لن يكرمش لأنك لا تأكلين مثلهم وتعملين كحجر رحى.
كنت في غذائي أقلده، أتناول ما يكفى لأعمل، ودائما إما خضارا حيا ولبناً وقطعة لحم صغيرة أو سمكٍ، وأشرب مغلي القرفة والزنجبيل، لا آكل حتى أشبع ولا أنام حتى طلوع الشمس ولم أجهد قلبي طيلة السبعين عاما التي عشتها بزوج يتعبني بتقلباته الموسمية، اكتفيت طوال حياتي بحب ملأ عليّ جنباتي، طبعا لست في حاجة لأن أقول إنّه لا أبناء لدى رغم امتلاء بيتي بالمقيمين والذين يخافون عليّ من الشيخوخة والموت، متعفنة دون أن يلحظني أحد.
يا لله على هذه الذاكرة تبقّى الكثير الكثير لم أروه بعد، أحيانا أعينها على السرد بالحكي المسموع، يهرعون إليَّ خائفين من تغلب الشيخوخة بالخرف دون أن يعلموا أن سيدي تنبأ لي بالحياة السليمة والقلب القوي حتى الممات، لكن من أين لهم أن يعرفوا تنبؤات سيدي، فهم جميعا لم يروه بقلوبهم كما رأيته أنا، أنا وحدي رأيت سيدي بقلبي حتى أبنائه وزوجته، لم يعرفوه كما عرفته . هذا الرجل الذي أهدى حياته للآخرين والعمل، لم يهدأ طيلة حياته أو يركن لراحة، دفع بكل سنواته لمشقة العمل، رأيته حزينا حد الدمع محبا لشعبه حد وجع العظام، وحدي رأيته بقلبي وكنت أحس دائما أنه يخصني وحدي.
مدينة أخرى سكنت قلب سيدي، أمدرمان، بعد أن ربح سيدي الكثير من عمليات بيع الخشب تلك، سافر إليها ليشتري منزلا هناك . عاد منها بصحبة رجل يعود نسبه إلى أسرة السلطان ود الفضل له من سماحة النفس وطيبتها ما يغريك بصحبته، أسرة السلطان ود الفضل هي ذات السلالة التي تنحدر منها أم سيدي – والتي قد أحكي عنها لاحقا لعظمة المكانة التي شغلتها في حياة سيدي -، ذاك الرجل كان بلحية بيضاء مصبوغة بالحناء وشعر أجعد كثيف ووجه به الكثير من الندوب وعينين ضيقتين بلون الليل، صرنا رغم فارق السن الهائل صديقين على الفور، فقد كنت أخدمه، له من خبرة الحياة وتجاربها ما يكفي لأن يكون على دراية بالمداواة بالأعشاب البرية، مهرت يداه في مداواة ملدوغي العقارب والثعابين، وقد كانوا كثراً، وتجبير كسور العظام بطريقة غريبة، كان يذبح دجاجة ويشق بطنها وقبل أن تزول حرارة جسدها يدخل الموضع المصاب داخل بطنها بحذر ومن ثم تجميع شقي البطن وخياطتها، أيضا كان ماهرا في التجبير بالتلمس، علمني الكثير في مسيرتنا القصيرة تلك، أحيانا أساعده في توليد الأبقار المتعسرة . نجلس مساء للسمر في جماعات على ضوء القمر، أجلس على مقربة منه أستمع إلى قصصه الغريبة ونوادر رجال عاش معهم بأراض بعيدة، أستيقظ فجرا أذهب إلى حيث يكون ليحدثني وحدي عن الحياة.