كتاب " ذاكرة الفينيق " ، تأليف فرح محمد دياب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ذاكرة الفينيق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ذاكرة الفينيق
(2)
«رحيل، افتحي عينيكِ يا صغيرتي، فالمسرحيّةُ لم تبدأ بعد.»
أيقظتني أصداءُ تلكَ الجملة العالقة في ذاكرتي.
فتحتُ عينيَّ وأنا خائفة.
هي جملة من المشهدِ الأخير، قالها قبلَ أن يرحل ويتركني أترقّب أحداثاً مجهولة.
أدرتُ ظهري لا أريدُ أن أدخلَ معها بأيِّ جدال، فأنا أعلمُ أنّ منطقها سيجعلني أتركُ منطقي وأدخلُ منطقَ الشوارعِ مع نفسي.
منذُ مجيئنا وأنا أكرهُ كلَّ ما في هذا البيت، أكرهُ جدرانهُ الباردةَ ببياضها الباذخ، وغرفِها التي افتُرشت بألوان زاهية متناسقة بملل...
أمّا أكثرُ ما كانَ يثيرُ غضبي فيهِ، فساعةٌ عملاقة تستندُ بكسل إلى الحائط في آخر الرواق.
كثيرة هي الأشياء التي جعلتني أشعرُ بالاختناقِ حينَ أدخلُ ذلكَ البيت،
كنتُ أحنُّ إلى غرفتي الدافئة في بيت أبي.
غرفتي التي جعلتُ الجدرانَ لا تفهمُ ما لونها والثياب لا تعي نفسها، أحنُّ إلى المرآة التي حطّمتها إلى جزءين...
هي المرآة الوحيدةُ الصادقة التي لا تدع أيّ شيء يبدو جميلاً، بل تريني إياه بوجهيهِ وقناعيهِ...
تلك غرفتي التي رتّبتها بفوضى جميلة تتناسق مع روحي. وحولَ السريرِ كتابٌ هنا وآخر هناكَ وقد اقتطعتُ صفحات منه تحدّثَ فيها الكاتب عن الوقت الساذج...
فارتمى الكتابُ بينَ عشراتِ الكتبِ التي انتحرت من أعلى المكتبة، هامداً بين روايات جرّدتها من صفحتها الأخيرة... لأنني أخاف النهايات... وأخاف قراءتها.
أحنُّ إليها بكلِّ ما تبقّى لديّ من حنين.
«ادخلي غرفتكِ» صوتٌ ذو رنين وحشيّ اقتحمني.
ضحكتُ ساخرةً في نفسي: «أحمق وهل تظنُّ أنَّ هذهِ غرفتي؟»
أغلقتُ البابَ... ثم نظرتُ إلى المرآة... لمحتُ جمالي.
لا... أنا لستُ جميلة فأنتِ أيتها المرآة كاذبة... تقنعينني بخدعةِ الضوءِ الذي أكره، كم أودُّ لو أحطّمكِ علّك تشبهين مرآة غرفتي وتفهمين حقيقةَ الجمال، ولكنّي أخافُ لو حطّمتكِ أن يغضبَ زوجُ أمي ويحطّم قلبي بكلماتهِ الجارحة. عذراً أيتُها المرآة، لن أستطيعَ أن أحرّركِ من عالمِ الضوء... عالمِ الأقنعةِ والكذب.
دخل الليل نافذةَ الغرفةِ المقفلة... فتحتُ عينيَّ وتقدّمتُ نحوَ النافذةِ مشرّعةَ إيّاها لآخرِ لفحاتِ الشتاءِ الباردةِ... أضأتُ شمعةً فوقَ الطاولةِ الخشبيةِ، ثمّ جلستُ وقد تسرّب البردُ إلى جسدي، أيقظتُ قلمَ رصاص هامداً على صدرِ الأوراق:
«أبي الحبيب، دوّامةُ الفقرِ أضاعتني، وأضاعت أمي المغلوبة على أمرِها، فما عادتْ تملكُ أيّ خيارٍ إلاّ الانصياع لأحكامِ زوجِها. مع أنّني لا أطيقُ البقاءَ في هذا المنزل... إلاّ أنّني مازلتُ بخيرٍ ومازلتُ أملكُ بعضَ أقلامِ الرصاصِ وأكداسٍ منَ الأوراقِ لأكتبَ إليكَ بقدرِ ما أشاء... ولكنّني أخافُ أن يرحلَ الشتاءُ فلا يبقى من رياحٍ تحملُ رسائلي إليكَ ولا يبقى من نسيمٍ يحملُ رائحتكَ إليّ، ومع ذلكَ سأظلُّ أرمي بأوراقي علّها..........»
وهبّتِ الرياحُ فخمدَ الضوءُ تاركاً لي دخاناً من وهم.... وهمِ الضوء.
كما تشائينَ أيّتها الرياح، ربّما لا تستطيعينَ حمل أيِّ أثقالٍ من الكلمات بعد. وأنا لا أريدُ أن أنهككِ بحملِ كلماتي.
أرجوكِ أيّتها الرياح خُذي هذهِ الورقة إلى أبي وأخبريهِ أنّني سأزورهُ غداً، أعدُكَ أبي... سأزوركَ غداً.
أغلقتُ النافذةَ فصمتَ كلّ شيئ وغرقت الغرفةُ مجدّداً بعتمتي الحزينة اليائسة...