كتاب " ذاكرة الفينيق " ، تأليف فرح محمد دياب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ذاكرة الفينيق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ذاكرة الفينيق
(3)
سئمت زمن المذابح والمصالح.
لا أدري ما هو الذي اختلف....ولمَ كلُّ هذهِ الفوضى العارمة حولي.
أشعرُ بالوقت يسخرُ مني.
أهوى الأخطاء التي تُغضب ذاك الذي أدعوه «عمّي»، كما تهوى الفراشاتُ أضواءَ المصابيح.... فتموت عليها...
أعيشُ خارج الزمن... لا آبه للوقت، فالوقت يسجنني ويجعلني رهينة عقاربَ صنعَها البشر لتقتل كل حلمٍ أسكنتهُ نبضات قلبي... فتشغلني نبضات الساعة عن نبضاته... ولا أسمع غير ثوانيها التي تلاحقني...وتلدغ أحلامي بلا رحمة.
أنهيت الوقت من زمني... ربما سبقته، أو سبقني... أو ربما نفاني وطردني... لكنني مازلت أملك ذاكرةَ التاريخ، الذي لن يرفضني أبداً لأنّهُ يذكرُ أفضلَ الناس ويذكرُ أسوأَهم.... ولا ينسى إلا من عبروا بسلامٍ وغَبروا....
دون أن يُعمّروا كلمة في أنفسهم أو حتى يدمروا شيئاً في نفوس الآخرين...
لا أدري كيفَ أبتعدُ عن الكتابة... وهي ما يدفعني نحو الجنون، أو كيفَ أتجاهل أقلام الرصاص وأترك الكتابة عن الزمن الرصاصي الذي جعلني لا أفهم إلا لغة الرصاص...أتوقف عن الكتابة فجأة لأمحو صفحات كثيرة كتبتها.... أمحوها ببساطة وسخرية.
ليت العالم يغرق في سحابةِ صمتٍ سوداء لا يخرج منها إلا بعد أن تعود الألوان إلى الزمن...
لكنّها لن تعود!
أيّ واقع هذا الذي عليّ أن أبقى سجينتة؟ هل هو واقع أمّي التي رمتها الأقدار في سراديب الحياة... فجرّدتها من مبادئ لطالما أوصتني بالتزامها في صغري. عجباً ما الذي قد يصنعه الفقر بالمرء... كيف جعلها تستخدم جمالها لتؤمّن «حياة كريمة»، كما كانت تقول.
أم هو واقع أنني أملك جمالها نفسه... ونسخة من عينيها الساحرتين.
أخاف أن أكون هي حين أصير بمثل سنّها.
لا محال... فأنا لم أعد أملك إلاّ الحقد على الرجال...أكره كلّ ما يتعلّق بهم، أكره أسماءهم ذات الحروف الحجريّة، أكره نفوسهم السوداء الملطّخة بدماء تنزف من أصنام الرجولة، أكرهُ رائحة العطر التي تفوح منهم، فهي تسبّب لي الدوار.
حتّى عطر الرجال شرس!! أشرسها رائحة مسك رصاصي تفوح من زوج أميّ الذي رست عليه أخيراً. فهي تريد من هو فاحش الثراء من الرجال، وهو يريد امرأة فاحشة الجمال. وكما يقال، الطيّبون للطيّبات!
أكره كل ما فيه. أكره نظراته تلك. أشعر بأن روحي ترتجف خوفاً حين أنتبه لعينيه وهما تحدّقان إليّ. كأنهُ يتلذذ بإرباكي.
كم كنت طيّباً يا أبي... «رحيل، افتحي عينيك يا صغيرتي، فالمسرحيّة لم تبدأ بعد»، جملة عالقة في ذاكرتي، كانت الجملة الأخيرة التي قالها لي قبل أن يرحل، وأنا... ما زلت أترقّب مشاهد المسرحيّة. أخاف تلك الجملة، فهي جملة وداع من نوع آخر، وللرحيل بعدها مذاق خاصّ... آمل أن لا يعاد يوماً.
كلماتها ستعيش في ذاكرتي، أخاف أن أرميها في دفتر ذكرياتي، فيقرأها أحد ما... ويستعملها، فيرحل إلى الأبد.
الرحيل هاجس من ذاكرتي يلاحقني، ويبعثر أشلاء روحي... وروحي ليست لي، هي قطع أرواح لبقايا الموتى. بعضها طيّبة، وبعضها الآخر قطع شرّيرة استحضرتها من رماد الغابة المخمدة في أرض ذاكرتي.
يقول زوج أمي: إنّني فتاة مهملة ومجنونة، وفوضويّة إلى أبعد الحدود.ولكنّني في الحقيقة أحاول تجاهل تفاصيل الزمن، فأملأ فراغ غرفتي بأغراضي، كثير من الألعاب، والأوراق، والكتب الميّتة، والأحزان والفراغ...
كل ما في الأمر أنني أؤمن بفلسفة الأشجار، تظل واقفة مهما كان الطقس عاصفاً، وإن يبست... لا تنحني.