كتاب " فك شفرة الكون " ، تأليف تشارلز سايف ترجمه إلى العربية أيمن أحمد عياد ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة
أنت هنا
قراءة كتاب فك شفرة الكون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الأول
الإسهاب
«أيّها السادة لاتقرأوا البريد الإليكتروني الخاصّ بالسادة الآخرين»
ـ هنري ل. ستيمسون
«ايه اف بها نقص مياه» تلك هي الكلمات الخمسة التي أغرقت الأسطول الياباني. ففي ربيع عام 1942 حيث كانت القوّات المسلّحة الأمريكية تترنّح بتأثير سلسلة متتالية من الهزائم، كانت البحرية اليابانية ذات الذراع الطولى في المحيط الهادي تندفع بقوّة تجاه الأراضي الأمريكية. ومع أنّ الوضع كان رهيبًا إلا أنّ خسارة الحرب لم تحدث، فقد كان مفكّكو الشفرة الأمريكان على وشك استخدام سلاح لايقلّ أهميّة عن القنابل والمدافع: إنّه سلاح المعلومات.
لقد قاموا بتفكيك الشفرة JN-25، وهي الشفرة التي كانت تستخدمها البحرية اليابانية، وكانت عصيّةً على الحلّ. لكن بحلول شهر مايو من عام 1942 نجح مفكّكو الشفرة بشقّ الأنفس في الولوج إلى الدهليز الرياضي لتلك الشفرة وكشفوا عن المعلومات المخبّأة بداخلها.
وطبقًا للرسائل التي تمّ اعتراضها وتفكيك شفرتها، فإن قاعدة أمريكية اسمها الرمزي ايه اف AF كانت على وشك التعرّض لهجوم بحري كبير. وقد عرف مفكّكو الشفرة الأمريكان أن ايه اف عبارة عن جزيرة في المحيط الهادي (أغلب الظنّ في القطاع الأوسط) لكنّهم لم يعرفوا على وجه الدقّة أيّ جزيرة بالضبط. فإذا قاموا بتخمين خاطئ، فسوف تدافع البحرية الأمريكية عن جزيرة أخرى غير تلك المقصودة، وسيكون بمقدور العدوّ اجتياح هدفه الحقيقي بلا مقاومة، لكن إذا استطاع مفكّكو الشفرة تحديد الجزيرة التي تعنيها كلمة ايه اف وتوقّعوا هدف الأرمادا اليابانية، فسيتمكّن الأمريكان من تركيز أسطولهم لضرب القوّة الغازية. كان كلّ شيء ـ الحرب في المحيط الهادي ـ معلّقًا على هذا الجزء المفقود من المعلومة: أين تقع ايه اف؟
وضع القائد جوزيف روشفورت Joseph Rochefort، رئيس مركز تفكيك الشفرات بالبحرية الأمريكية في بيرل هاربور، مخطّطًا للحصول على هذا الجزء المفقود من المعلومة، فأصدر أمرًا لقاعدة موجودة في القطاع الأوسط لكي تقوم بطلب المساعدة عن طريق الهاتف، بحيث تنصّ المحادثة على أن محطّة تحلية المياه في «جزيرة القطاع الأوسط» قد أصيبت وأنّ القاعدة بدون مياه نقيّة تقريبًا. وقد استمع اليابانيّون الذين كانوا يتنصّتون على مراسلات القطاع الأوسط لهذا الإرسال أيضًا، وهو ما كان روشفورت ينتظره بالضبط. ولم يمضِ وقت طويل على إرسال تلك الرسالة الهاتفية، حتّى التقطت مخابرات البحرية الأمريكة رسالة خافتة لليابانيّين على الموجات الهوائية: «ايه اف بها نقص مياه». وهكذا حصل روشفورت على الجزء المتبقّي من المعلومة. ايه اف تقع في القطاع الأوسط.
وقد تجمّع الأسطول الأمريكي للدفاع عن الجزيرة. وفي 4 يونيو 1942، وقَعت القوّات الغازية بقيادة الأدميرال ايسوروكو ياماموتو Isoroku Yamamoto مباشرة في قبضة القوّات البحرية المتأهّبة بقيادة الأدميرال شيستر نيميتز Chester Nimitz. وأثناء تلك المعركة هوت إلى القاع، أربع حاملات طائرات يابانية ـ هيريو Hiryu، سوريو Soryu، أكاجي Akagi، كاجا Kaga ـ في مقابل فقدان حاملة طائرات أمريكية واحدة. وعاد الأسطول الياباني الكسيح إلى دياره وهو يجرّ أذيال الخيبة. لقد خسرت اليابان المعركة، وبالتالى خسرت الحرب في المحيط الهادي، ولم تعد البحرية اليابانية تشكّل خطورة على الأراضي الأمريكية مرّة أخرى، وبعدها بدأت الولايات المتحدة أطول هجوم عسكري وأصعبه على الأراضي اليابانية. فقد تسرّب جزءٌ ثمينٌ من المعلومات، عن هدف غزو ياماموتو، خلال عملية حماية الرموز والشفرات وهو ما منح أمريكا نصرها الحاسم(*).
كانت الحرب العالمية الثانية أول حرب للمعلومات، وكما استخلص مفكّكو الشفرة الأمريكان المعلومات من الشفرة JN-25 ومن شفرات الإمبراطورية اليابانية، قامت صفوة من مفكّكي الشفرة الإنجليز والبولنديين بتفكيك شفرة إنيجما Enigma الألمانية التي كان يُفترض أنّها عصيّة على التفكيك. وكما سمحت المعلومات للولايات المتحدة بهزيمة اليابان، فإنّ معلومات الانيجما قد مكّنت الحلفاء من هزيمة اليوبوتات U-boats النازية التي كانت تضيّق الخناق على بريطانيا العظمي.
وكما أنّ الصراع على المعلومات قد ترك بصماته على وجه الحرب، تركت الحرب بصماتها على وجه المعلومات. فخلال الحرب العالمية الثانية، بدأ تحوّل عملية التشفير من مجرّد كونها فنًّا لتصبح علمًا. وكان مفكّكو الشفرات داخل غرف التشفير الحارة بهاواي أو في المباني العتيقة بإنجلترا روّادًا للثورة التي باتت تُعرف بنظرية المعلومات.
كان مصمّمو ومفكّكو الشفرات على صلة وثيقة دومًا بما سيصبح نظرية للمعلومات. إلا أنّه، ولآلاف السنين، لم يكن لديهم أيّ فكرة عن كونهم يقومون بغزوات تجريبية في أحد مجالات العلم الجديدة كلّيًا. وعلى العموم يعدّ التشفير أقدم من العلم، حيث قام الملوك والقادة العسكريّون مرارًا وتكرارًا في العصور القديمة ـ معتمدين على الرسائل المخبّأة والمعلومات المستترة خلف الرسائل المشفّرة والمؤمّنة تأمينًا بسيطًا ـ بمحاولات تطلّبت منهم المراوغة والتعامل بحذرٍ للتغلّب على مخاطر نقل المعلومات.
يرجع تصميم الشفرات إلى فجر الحضارة الغربية، ففي عام 480 ق. م. كاد الإغريق أن يخضعوا للغزو على يد الإمبراطورية الفارسية التي كانت أعظم قوّة، إلا أنّ رسالة سرّية مخفيّة بالشمع على أحد أقراص الكتابة قد حذّرت من هذا الغزو المرتقب. وبدأ الإغريق بعد أن تمّ تحذيرهم عن طريق هذه الرسالة بالاستعداد للحرب فورًا، فقاموا بمهاجمة قوّات البحرية الفارسية بضراوة في معركة سلاميس Salamis واضعين بذلك نهاية للتهديد الفارسي ومبشّرين بالعصر الذهبي للإغريق. ولولا هذه الرسالة المخبّأة، لم يكن بمقدور تجمّع ولايات المدينة الإغريقية الهشّ مقاومة قوّة الأسطول الفارسي الفائقة، ولكانت البلاد الإغريقية قد أُخضعت للفتح الفارسي، ليكون مآل الحضارة الغربية مغايرًا بشكلٍ كامل.
وقد غيّر الفشل في محاولة نقل المعلومة أحيانًا من مسار التاريخ. فكم من رؤوس قد تدحرجت بسبب اكتشاف رسالة سرّية أو نتيجة لشفرة تم تفكيكها. ففي العام 1587، اقتيدت ماري Mary ملكة أسكتلندا إلى ساحة الإعدام بسبب شفرة رديئة. حيث إنّها قامت أثناء وجودها في السجن، بالتخطيط لمؤامرةٍ لقتل الملكة إليزابيث Elizabeth والاستيلاء على العرش الإنجليزي. ولأنه كان يجرى تفتيش كلّ ما كان يدخل أو يخرج من السجن، فقد لجأت ماري إلى التشفير لكي تتواصل مع أنصارها. فقامت مع شركائها في المؤامرة بابتكار شفرة لهم، وتداولوا عددًا من هذه الرسائل المشفّرة التي كان يجرى تخبِئَتها في سدادات براميل البيرة. ولسوء حظّ ماري فإن السير فرنسيس ولسينجهام Sir Francis Walsingham رئيس المراقبين الإنجليز، قد اكتشف هذه الرسائل وقام بحلّ شفرتها. حتّى إنه قام بزرع رسالة زائفة باعتبارها من ماري وموجّهة للمتآمرين تحثّهم فيها على الكشف عن أسماء كلّ الرجال في جمعيّتهم السرّية. وعندما مثلت الملكة ماري أمام المحكمة بتهمة الخيانة كانت هذه الرسائل هي المستند الرئيسي، فكان مصيرُها شفرةً مفكّكة وضربتَي فأسٍ على الرأس.