كتاب " تسعة أبحاث منطق فلسفية " ، تأليف ويلارد كواين ترجمه إلى العربية نجيب الحصادي ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب تسعة أبحاث منطق فلسفية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تسعة أبحاث منطق فلسفية
بيد أن المذاهب الأفلاطونية ليست جميعها عرضة لهذا الدحض الميسر. ثمة صيغ أكثر تركيبا لإلزامنا بما لا يحس ولا يجس، رغم أن كواين يبدي استعدادا مماثلا لتبيان مكامن قصورها. ثمة من يقر أن بيجاسوس، كأي شيء آخر ننكر وجوده، إنما يحتاز على وجوده بوصفه كائنا غير متحقق. حين ننكر وجود بيجاسوس فإننا نقر أن خاصية التحقق تعوزه. القول بأن بيجاسوس ليس حقيقيا لا يختلف من وجهة نظر منطقية عن القول بأن مبنى الامباير ستيت ليس مطليا باللون الأحمر. في الحالين نقر شيئا عن شيء لا نرتاب في كونه كائنا.
لا ريب أن هذا المذهب سوف يذكر كثيرا منا بنقد كانت الشهير للدليل الأنطولوجي في إثبات وجود الله. ثمة افتراض متضمن فيه مفاده أن الوجود (الذي يحلل هنا عبر مفهوم التحقق العياني) خاصية من ضمن الخواص التي قد يختص بها أي شيء. وقبل أن يلتمس كواين في تقنيات المنطق المعاصر سبيلا للتعبير عن قالة كانت بأن الوجود شرط لاختصاص أي شيء بأية خاصية، عوضا عن أن يكون خاصية من ضمن الخصائص التي قد تعزى إليه، يمطر كواين خصمه بوابل من الأسئلة يستبان من عوزها بداهة لأية أجوبة، أو من قابليتها لأن يجاب عنها بشكل اعتباطي، أن المذهب الذي يثيرها غير قابل لأن يدافع عنه. إنه يطلب منا أن نعتبر الرجل البدين الممكن تحققه في موضع بعينه، وأن نعتبر معه الرجل الأصلع الممكن في ذات الموضع: "هل هما ذات الرجل الممكن أم تراهما رجلين ممكنين؟ كيف يتسنى لنا حسم هذا الأمر؟ كم عدد الرجال الممكنين في ذلك الموضع؟ وكم عدد المتماثلين منهم؟ هل يفوق عدد النحيلين منهم عدد البدناء؟ أم أن التماثل هنا يعني التماهي؟ أم أنه ليس هناك شيئان ممكنان متماثلان؟ وهل هذا يعني استحالة تماثل أي شيئين؟ وأخيرا، هل يعد مفهوم الهوية قابلا للتطبيق على الإمكانات غير المتحققة؟ ولكن أية دلالة ينطوي عليها الحديث عن كينونات لا معنى للحكم بتماهيها مع ذواتها ولا معنى للحكم بتمايز واحدتها عن سائرها؟".
العالم الذي يدافع كواين عن كوننا في حل من الالتزام بوجوده مكتظ بعدد لا متناه من الكينونات، وهو لا يخدش الحس الاستاطيقي المستسر فينا فحسب، بل يهدد بإيقاعنا فريسة لأغلاط منطقية فاضحة، أو هكذا يزعم كواين حين يشرع في الحديث عن قبة باركلي الدائرية المربعة. إذا كان احتياز إقرار عدم كون بيجاسوس على معنى يرتهن بكونه على أقل تقدير إمكانا غير متحقق، سوف يرتهن احتياز إقرار عدم وجود قبة كلية باركلي الدائرية المربعة بكونها. غير أننا خلافا لحالة بيجاسوس لا نستطيع التسليم بوجود قبة كلية باركلي الدائرية المربعة حتى بوصفها إمكانا غير متحقق. وبطبيعة الحال، فإن خصم كواين، درءا لوقوعه في أية إحالات منطقية، سوف يسارع إلى إنكار احتياز أي إقرار يشتمل على مثل ذلك التعبير الذي يبدو متناقضا على أي معنى. بيد أن كواين يسد الطريق أمام هذا المذهب عبر الركون إلى اكتشاف في المنطق الرياضي، يعزى فضله إلى تشرش، مفاده أنه ليس هناك اختبار للتناقض يمكن تطبيقه بوجه عام. بصياغة قد تكون أكثر وضوحا، عوز معيار يحسم أمر التناقض يكرس ريبة كواين في مذهب خصمه الذي يمكن صياغته بالقول إن إقرار إنكار وجود أية كينونة يحتاز التعبير عنها على معنى يلزمنا بإقرار وجودها بوصفها إمكانا غير متحقق على أقل تقدير؛ ذلك أنه لا سبيل لتجنب أشياع هذا المذهب إقرار إلزامنا بوجود الكينونات المتناقضة، من قبيل قبة باركلي، إلا عبر إنكارهم احتياز التعبيرات المتناقضة التي تزعم الإشارة إليها على معنى. بيد أن جدوى هذه السبيل، نسبة إلى المقصد الذي توظف في تحقيقه، رهن بوجود معيار قادر على أن يحسم في أي سياق أمر تضمن أي تعبير لأي نوع من الإحالات المنطقية، وهذا على وجه الضبط هو المعيار الذي يبرهن تشرش على استحالة قيامه. وغني عن فضل البيان أن الاستراتيجية التي ينتهجها كواين في هذا السياق الخاص تفتح الباب على مصراعيه لإنقاذ أي تعليم يبدو أنه يقع فريسة للتناقض، الأمر الذي يعرض تلك الاستراتيجية إلى برهان خلف صريح يشكك في عقلانية تبنيها.
لقد آثرت أن أمضي بعض الوقت في عرض بعض من سبل كواين في حجاج خصومه في هذا المسألة، لمجرد أن أبين في هذا المعرض الاستهلالي مدى أساسية القضايا التي يتناولها من جهة ومدى حرصه على توضيح المواقف التي تم اتخاذها بخصوصها وتبيان مكامن قصورها. المذهب الذي يخلص إليه كواين في هذه المسألة يركن إلى نظرية رسل في الأوصاف، وهو يحدث فيها تعديلات تمكن من توظيفها في حسم مسألة ما تلزمنا إقراراتنا بوجوده بصرف النظر عن طبيعة الصياغة اللغوية التي يتم عبرها الإفصاح عن تلك الإقرارات. أن تكون هو أن تكون قيمة لمتغير. هذا هو مفاد المعيار الذي يقترحه كواين. متغيرات التكميم، "شيء ما"، "لا شيء"، "كل شيء"، "تستنفد نطاق مذهبنا الأنطولوجي بأسره، بصرف النظر عن طبيعته، ونحن ملزمون بافتراض أنطولوجي بعينه إذا وفقط إذا توجب اعتبار المفترض المزعوم ضمن الأشياء التي تسري عليها متغيراتنا لجعل واحد من إقراراتنا صحيحا." محاجة كواين عامة تماما. لقد افترض خصومه أننا لا نستطيع إقرار إنكار أي شيء نتورط في تسميته، "بيجاسوس" مثلا، إلا عبر إلزام أنفسنا بوجود مقابل موضوعي لذلك الاسم. الآن اتضح أن هذا الافتراض لا أساس له من الصحة، إذ يمكن دوما إعادة صياغة الاسم المفرد المعني بحيث يصبح وصفا مفردا، ثم القيام بتحليله وفق نظرية رسل. هكذا نلزم أنفسنا بأنطولوجيا تشتمل على الأعداد حين نقول بكون أعداد أولية أكبر من المليون ونجعل منها قيما لمتغيرات منطوقاتنا، ونلزم أنفسنا بأنطولوجيا تشتمل على أحاديات القرن حين نقول بكون أحاديات القرن ونجعل منها قيما لمتغيرات منطوقاتنا، وكذا الحال حين نقر وجود بيحاسوس؛ "بيد أننا لا نلزم أنفسنا بأنطولوجيا تشتمل على بيجاسوس أو مؤلف ويفرلي أو القبة الدائرية المربعة في باركلي حين نقر عدم كونها. لم نعد تحت طائلة الوهم بأن احتياز جملة تتضمن كلمة مفردة على معنى يفترض شيئا تسميها تلك الكلمة. إن احتياز الكلمة المفردة على معنى ليس وقفا على قيامها بفعل التسمية."