كتاب " تسعة أبحاث منطق فلسفية " ، تأليف ويلارد كواين ترجمه إلى العربية نجيب الحصادي ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب تسعة أبحاث منطق فلسفية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تسعة أبحاث منطق فلسفية
ثمة تعليم آخر يشكل عند كواين مركز عود لكثير من الأحكام التي يعنى بالدفاع عنها. الفلسفة عنده استمرار للعلم، بل جزء منه، فالعلم متصلة تبدأ بالتاريخ والهندسة وتنتهي بالرياضة والفلسفة، وليس ثمة معيار حاسم يمكّن من الفصل بين أجزاء هذه المتصلة. ثمة مبادئ تفترض في أية منظومة معرفية، يتم بموجبها تقويم قابلية أية مكون لأن ينتسب إليها، ومشروعية انتساب مثل هذا المكون لا ترتهن كما يزعم كثير من أشياع النزعة الامبيريقية باقتداره على مواجهة محكمة الخبرة التي لا تقبل أحكامها أي نقض أو استئناف، فالمكونات لا تواجه الخبرة بشكل فردي منزوعة من أسلحة منظومتها، بل تتم المواجهة بين منظومة بأسرها وخبرات تم استقراؤها على نحو لا سبيل لحسم أمر حياده. وغني عن فضل البيان أن كواين هنا يستشرف فلسفة العلم الجديدة التي أضحى يشايعها في الثلث الأخير من القرن العشرين فلاسفة من قبيل تومس كون، هارولد براون، وليري لادان، رغم أنه يخلص إلى مذهبه بالركون إلى اعتبارات منطقية صرفة، في حين يعمد أولئك الفلاسفة إلى دعم رؤاهم عبر سبل وصفية تركن إلى تاريخ العلم، ما يجعلهم عرضة إلى تهمة اشتقاق ما يتوجب قيامه من مجرد واقع قيامه.
غير أن رؤية كواين في المنطق قد تجعل ذلك الفرق أقل أهمية. عند كواين، مجموع ما يسمى بالمعرفة أو الاعتقاد، المنظومات الابستمولوجية بمختلف أنماطها، نسيج استحدثه الإنسان لا يمس الخبرة إلا في الأطراف. من شان التضارب مع الخبرة في منطقة الأطراف أن يحدث تعديلات داخل المجال، بحيث يلزمنا أن نعيد النظر في قيم صدق بعض الإقرارات، ما يستلزم بدوره، بسبب الارتباطات المتبادلة القائمة بينها، إعادة تقويم مجموعة أخرى منها. بيد أن كواين يذهب إلى حد اعتبار قوانين المنطق جزءا من الأحكام التي تفترض في سياق البت في أمر أي إقرار، فهي لا تعدو في نهاية المطاف أن تكون مجموعة أخرى من إقرارات النسق. على هذا النحو يخلص كواين إلى التشكيك في مثنوية تشكل عقيدة من عقائد الامبيريقية، عنيت التمييز بين القضايا التحليلية، التي تصدق بسبب معانيها، والقضايا التركيبية، التي ترتهن قيم صدقها بالشاكلة التي يكون عليها العالم:
"إذا صح هذا المذهب، فإن الحديث عن المحتوى الامبيريقي الخاص بإقرار مفرد حديث مضلل ـ خصوصا إذا كان بعيدا عن أطراف المجال الخبراتية. أيضا من الحمق أن نتحدث عن تمييز بين الإقرارات التركيبية، التي تصدق عرضا في الخبرة، والإقرارات التحليلية، التي تصدق بصرف النظر عما يحدث. يمكن لأي إقرار أن يعد صادقا مهما حدث، طالما قمنا بتعديلات متطرفة إلى حد كبير في مواضع أخرى من النسق. حتى الإقرار الذي يكون غاية في القرب من الأطراف يمكن أن يعد صادقا، على تضاربه مع الخبرة، فقد ندفع بالوقوع تحت تأثير الهلوسة أو بالقيام بتعديل إقرارات بعينها ـ ما يسمى بالقوانين المنطقية. في المقابل، وعلى النحو نفسه، ليس هناك إقرار محصن ضد التعديل. حتى تعديل قانون الوسط المرفوع المنطقي اقترح سبيلا لتبسيط ميكانيكا الكم."
يبقى أن نشير إلى أن كواين لا يروم طرح نسق استرابي رغم استعداده المستمر في التشكيك حتى في صحة ما عهدناه من قواعد منطقية. المنظومة التي يشايعها براجماتية في طابعها، وبالرغم من أنه يعي تماما عجز البشر عن إثبات أية قضية، وبالرغم من مذهبه يقر أن كل التحليلات ملزمة بأن تدور في نهاية المطاف في حلقة مفرغة، فإنه يبدي استعدادا لتقويم الأنساق النظرية وفق مدى اتساقها وإسهامها في توضيح ما كان مبهما، طالما كان هناك وعي تام بالافتراضات المؤسس عليها وبإمكان الاستعاضة عنها بنظريات قد لا تقل اتساقا أو اقتدار على إنجاز مهمة فهم العالم.
وبعد، ها نحن نقدم هذا الكتاب إلى قراء العربية رغم مرور عقود على صدور الأبحاث التي يشتمل عليها، إحساسا منا بأهميتها نسبة إلى علمي الدلالة والمنطق، فضلا عن فلسفة العلوم ومختلف مذاهب الوجود. ولربما يجد النشء الجديد في ثناياها بعضا مما يعين على تشكيل رؤى أصيلة في تلك المجالات صعبة المراس، سيما حال مقاربتها عبر أدبيات التراث العربي والإسلامي ومقارنتها بالرؤى التي دأب الأسلاف على تبنيها، فدراية المحدثين من أمثال كواين بذلك التراث لم تكن أوفر حظا من دراية أولئك الأسلاف بما خلص إليه أولئك المحدثون.
بنغازي
23.9.2000