كتاب " تسعة أبحاث منطق فلسفية " ، تأليف ويلارد كواين ترجمه إلى العربية نجيب الحصادي ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب تسعة أبحاث منطق فلسفية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تسعة أبحاث منطق فلسفية
بخصوص الأوصاف، لم تعد هناك أية صعوبات تواجهنا في إقرار أو إنكار الكون. الجملة "يوجد مؤلف ويفرلي" تعني وفق تفسير رسل "شخص ما (بكلمات أدق: شيء ما) كتب ويفرلي، وكان شاعرا، ولا شيء آخر كتب ويفرلي". الجملة "مؤلف ويفرلي لا يكون" تفسر على نحو مماثل بوصفها جملة فصلية مفاده "إما لا شيء كتب ويفرلي أو شيئان على الأقل كتبا ويفرلي". هذه جملة باطلة لكنها تظل تحتاز على معنى، وهي لا تشتمل على أي تعبير يُفهم منه تسمية مؤلف ويفرلي. وعلى نحو مناظر يتم تحليل الجملة "القبة الدائرية المربعة في باركلي لا تكون ". هكذا يتم التخلي نهائيا عن الفكرة القديمة التي تقر أن جمل اللاكون تدحض نفسها. حين يتم تحليل جملة تتعلق بالكون وفق الطريقة التي تقترحها نظرية رسل، فإنها لا تعود تشتمل على أي تعبير يفهم منه حتى تسمية الشيء المزعوم الذي نتحدث عن كونه، وبذا لا يعود احتياز الجملة على معنى رهنا بكون ذلك الشيء.
ولكن ماذا عن "بيجاسوس"؟ إن كونها كلمة عوضا عن كونها عبارة وصفية يحول دون تطبيق محاجة رسل عليها بشكل مباشر. بيد أن هذه إشكالية تسهل معالجتها. كل ما نحتاجه هو إعادة صياغة "بيجاسوس" في شكل وصف بطريقة تناسب وتميز فكرتنا، كأن نقول "الحصان المجنح الذي استولى عليه بيليريفون". باستبدال مثل هذه العبارة بكلمة "بيجاسوس"، نستطيع القيام بتحليل الجملة "بيجاسوس يكون" أو "بيجاسوس لا يكون" بالطريقة نفسها التي قام رسل وفقها بتحليل "مؤلف ويفرلي يكون" أو "مؤلف ويفرلي لا يكون".
وبطبيعة الحال، فإن إدراج اسم يتكون من كلمة مفردة أو اسم مزعوم من قبيل "بيجاسوس" تحت نظرية رسل في الوصف يتطلب بداية القدرة على ترجمة الكلمة إلى وصف. غير أن هذا لا يشكل قيدا حقيقيا. إذا كانت فكرة بيجاسوس غامضة أو أساسية إلى حد يحول دون ترجمتها بطريقة مناسبة نألفها إلى عبارة وصفية، يظل بمقدورنا الإفادة من الوسيلة التالية. نستطيع الركون إلى الصفة المفترضة غير القابلة للرد أو التحليل " كون الشيء بيجاسوس" وأن نقوم بالتعبير عنها بالجملة الفعلية "يكون_بيجاسوس" أو بالفعل "يتبيجس". آنذاك يتسنى لنا اعتبار الاسم "بيجاسوس" مشتقا يتم تحديده بالوصف "الشيء الذي يتبيجس"7.
إذا بدا أن طرح محمول من قبيل "يتبيجس" يلزمنا التسليم بوجود خاصية مناظرة، البيجسة، في فردوس أفلاطون أو في أذهان الناس، فلا ضير في ذلك. ذلك أننا لم نكن نجادل، وكذا شأن ماكس ووايمان، بخصوص كون أو عدم كون الكليات، بل بخصوص بيجاسوس. إذا تمكنا من تأويل الاسم "بيجاسوس" عبر البيجسسية واعتبرناه وصفا تسري عليه نظرية رسل في الأوصاف، فقد نجحنا في الخلاص من الفكرة القديمة التي تقر أننا لا نستطيع إنكار كينونة بيجاسوس دون افتراض أنه يكون بمعنى ما.
محاجتنا عامة تماما. لقد افترض ماكس ووايمان أننا لا نستطيع إقرار جملة من قبيل "كذا وكذا لا يكون" بطريقة تحتاز على معنى، حيث يستعاض عن "كذا وكذا " باسم مفرد وصفي، ما لم يكن كذا وكذا كائنا. الآن اتضح أن هذا الافتراض لا أساس له من الصحة، إذ يمكن دوما بسط الاسم المفرد المعني بحيث يصبح وصفا مفردا، بالركون إلى وسيلة ما أو أخرى، ثم القيام بتحليله وفق نظرية رسل.
إننا نلزم أنفسنا بأنطولوجيا تشتمل على الأعداد حين نقول بكون أعداد أولية أكبر من المليون، ونلزم أنفسنا بأنطولوجيا تشتمل على أحاديات القرن حين نقول بكون أحاديات القرن، ونلزم أنفسنا بأنطولوجيا تشتمل على بيجاسوس حين نقول إنه يكون. بيد أننا لا نلزم أنفسنا بأنطولوجيا تشتمل على بيجاسوس أو مؤلف ويفرلي أو القبة الدائرية المربعة في باركلي حين نقر عدم كونها. لم نعد تحت طائلة الوهم بأن احتياز جملة تتضمن كلمة مفردة على معنى يفترض شيئا تسميها تلك الكلمة. إن احتياز الكلمة المفردة على معنى ليس وقفا على قيامها بفعل التسمية.
لقد كان بمقدور وايمان وماكس الإفادة من هذا التلميح حتى دون عون من رسل لو أنهما لاحظا، كما يلحظ قليل منا، أن ثمة فرقا بين المعنى والتسمية، حتى في حالة الألفاظ المفردة التي تعد حقيقة أسماء لأشياء بعينها. المثال التالي المستقى من فريجه (Frege [3]) يوضح هذا الأمر. العبارة "نجمة المساء" تسمى جسما ماديا كرويا ضخما بعينه يجوب الآفاق على بعد عدد من ملايين الأميال عن الأرض. عبارة "نجمة الصباح" تسمي الجسم نفسه، وهذا ما اكتشفه أول من اكتشفه ملاحظ بابلي. على ذلك، لا يمكن إقرار أن العبارتين تعنيان الشي نفسه، وإلا لما احتاج ذلك البابلي إلى ملاحظاته ولاكتفى بالتأمل في معاني ألفاظه. يتعين إذن على المعاني، لأنها مختلفة، أن تكون مغايرة للشيء المسمى، كونه واحدا في الحالين.
لم يقتصر الخلط بين المعنى والتسمية على جعل ماكس يعتقد أنه لا سبيل لإنكار بيجاسوس بطريقة تحتاز على معنى. لا ريب أن الخلط المستمر بين المعنى والتسمية قد عمل على إثارة اعتقاد مناف للعقل مفاده أن بيجاسوس فكرة، أي شيء ذهني. تتعين بنية الخلط في أن ماكس لا يميز بين الشيء المسمى المزعوم بيجاسوس ومعنى كلمة "بيجاسوس"، ما يجعله يخلص إلى ارتهان احتياز هذه الكلمة على معنى بكون بيجاسوس. ولكن أي نوع الأشياء تكونه المعاني؟ هذه مسألة فيها نظر. بمقدور المرء اعتبار المعاني أفكارا في العقل، على افتراض أننا نستطيع توضيح فكرة الأفكار التي تكون في العقل. على هذا النحو ينتهي المطاف ببيجاسوس، الذي تم الخلط بينه وبين معناه، بأن يغدو فكرة في الذهن. الأغرب من ذلك أن وايمان، الذي وقع تحت تأثير الدافع الابتدائي الذي استحاذ على ماكس، قد تمكن من تجنب هذا الخطأ الفاضح، بحيث انتهى إلى القول بإمكانات غير متحققة.
دعونا نعد الآن إلى الإشكالية الأنطولوجية المتعلقة بالكليات؛ للسؤال عما إذا كانت هناك أشياء من قبيل الخواص والعلاقات والفئات والأعداد والدوال. يعتقد ماكس على نحو مميز في كون هذه الأشياء. حين يتحدث عن الخواص يقول "ثمة منازل حمراء، ورود حمراء، وغروب أحمر؛ هذا قدر من الحس المشترك قبل الفلسفي يتوجب الإجماع عليه. هناك إذن قاسم مشترك بين المنازل والورود والغروب، هو ما أسميه بخاصية الحمرة." عنده كون الخواص أكثر بيانا وأقل أهمية من الحقيقة التي تقر كون منازل حمراء وورد أحمر وغروب أحمر. أعتقد أن هذا يميز الميتافيزيقا، على الأقل فرعها المسمى بالأنطولوجيا: كل من يعتد بصدق أية جملة تتعلق بهذا الموضوع محتم عليه أن يعتبرها صادقة على نحو تلقائي. أنطولوجيا المرء أساسية للمخطط المفهومي الذي تؤول عبره كل الخبرات، حتى أشدها ألفة. حين يحكم على قضية أنطولوجية وفق مخطط مفهومي بعينه ـ وهل ثمة معيار يحكم وفقه سوى مخطط كهذا؟ ـ تصبح عنده غنية عن فضل البيان، بحيث لا يستشعر حاجة إلى طرح أي تبرير خاص بها. الجمل الأنطولوجية تلزم مباشرة عن أسلوب الجمل السببية المتعلقة بالحقائق السائدة، تماما كما تلزم الجملة "ثمة خاصية" ـ وفق مخطط ماكس المفهومي ـ عن الجملة "ثمة منازل حمراء، وورود حمراء، وغروب أحمر".
في المقال، إذا حكمنا وفق مخطط مفهومي آخر، الجملة الأنطولوجية التي تعتبر عند ماكس بدهية، قد تعد بالقدر نفسه من المباشرية والتلقائية جملة باطلة. قد يسلم المرء بأن هناك منازل حمراء ووردا أحمر وغروبا أحمر وينكر، متغاضيا عن الطريقة الشائعة والمضللة في الكلام، وجود قاسم مشترك بينها. الألفاظ "منازل"، "ورود"، "غروب" تصدق على مختلف الأشياء الفردية التي هي منازل وورود وغروب، كما أن كلمة "حمراء" أو "شيء أحمر" تصدق على كل من تلك الأشياء التي هي منازل حمراء وورود حمراء وغروب أحمر. ولكن ليس ثمة شيء إضافي فردي أو كلي تسميه كلمة "حمرة" أو حتى "المنزلية"، "الوردية"، و"الغروبية". قد يعتبر كون المنازل والورود والغروب حمراء أمرا نهائيا لا يقبل الرد، وقد نقر أن وضع ماكس من حيث قدراته التعبيرية الحقيقية ليست أفضل حالا، نسبة إلى كل الأشياء الغامضة التي يفترض أن تشكل مسميات لـ"الحمرة" مثلا.