كتاب " تسعة أبحاث منطق فلسفية " ، تأليف ويلارد كواين ترجمه إلى العربية نجيب الحصادي ، والذي صدر عن دار زهران ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب تسعة أبحاث منطق فلسفية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تسعة أبحاث منطق فلسفية
الواقعية، وفق استخدام هذه اللفظة في سياق الجدل الوسيط حول الكليات، هي المذهب الأفلاطوني الذي يقر أن الكليات أو الأشياء المجردة تحتاز على وجود مفارق للعقل؛ بمقدور العقل اكتشافها ولكن ليس بمقدوره خلقها. المنطقية، كما يمثلها فريجه، رسل، وايتهد، تشرش، وكارناب، تسمح باستخدام المتغيرات المقيدة للإشارة دون تمييز إلى الكينونات المجردة المعروف منها والمجهول، القابل وغير القابل للتحديد.
في المقابل، تقر المفهومية وجود الكليات لكنها تقول إنها من خلق العقل. أما الحدسية، التي أخذ بها بطريقة أو أخرى في العصور الحديثة كل من بونكارييه، براور، ويل، فضلا عن آخرين، فلا تقر استخدام المتغيرات للإشارة إلى كينونات مجردة إلا حال كونها منتجة بشكل مفرد من مكونات سبق تحديدها. وفق تعبير فرينكل، تزعم المنطقية أن الفئات تكتشف في حين تزعم الحدسية أنها تستحدث، وهذا تعبير منصف حقا عن التعارض بين الواقعية والمفهومية. غير أن هذا التعارض ليس مجرد مماحكة لفظية، فهو يحدث فرقا أساسيا في قدر الرياضيات الكلاسيكية الذي يرغب المرء في التسليم به. أشياع المنطقية، أو الواقعية، قادرون وفق افتراضاتهم على الحصول على تراتيب كانتور التصاعدية في اللاتناهي. في يرغم الحدسيون على التوقف عند أدنى مراتب اللاتناهي، ما يجعلهم ملزمون مباشرة بالتخلي عن بعض القوانين الكلاسيكية الخاصة بالأعداد الحقيقية. إن الجدل المحدث بين المنطقية والحدسية إنما ينشأ عن خلاف حول اللاتناهي.
الصورية، التي ترتبط باسم هلبرت، تحاكي الحدسية في شجب ركون أنصار النزعة المنطقية المتحرر إلى الكليات. غير أن الصورية تعتبر الحدسية مذهبا خاطئا. قد يرجع هذا إلى سببين متعارضين. قد يعترض الصوري، شأن نصير المنطقية، على تعطيل الرياضة الكلاسيكية، وقد يعترض، شأن الإسميين الأقدمين، على قبول الأشياء المجردة أصلا، حتى بالمعنى المقيد الخاص بالأشياء المستحدثة عقليا. بيد أن بيت القصيد واحد في الحالين. ذلك أن الصورية تحتفظ بالرياضيات الكلاسيكية بوصفها مداولة لرموز لا معنى لها. يظل هناك نفع يجنى من هذه المداولة، بصرف النظر عن طبيعة الخدمة التي أثبتت الرياضيات قدرتها على تقديمها لدعم الفيزيائيين والتقنيين. بيد أن النفع لا يعد ضمانا لكونها مفيدة، وفق أية دلالة لغوية صرفة. أيضا فإن النجاح الباهر الذي أحرزه الرياضيون في تشكيل مبرهنات واكتشاف أسس موضوعية لاتفاقهم على النتائج التي يخلصون إليها لا يستلزم أنها مفيدة. ذلك أن الأسس المناسبة للاتفاق يبن الرياضيين قد تكمن ببساطة في القواعد التي تحكم مداولة الرموز، كون تلك القواعد التركيبية، خلافا للرموز نفسها، مفيدة وقابلة للفهم10.
جادلت بأن نوع الأنطولوجيا الذي نتبنى قد يكون ذا شأن، خصوصا فيما يتعلق بالرياضيات، رغم أن هذا مجرد مثال. ولكن كيف نستطيع الحكم على المذاهب الأنطولوجية المتضاربة؟ لا ريب أن الصياغة الدلالية "أن تكون هو أن تكون قيمة لمتغير" لا تطرح إجابة عن هذا السؤال. على العكس تماما، فإنها توظف في اختبار مدى امتثال ملاحظة أو مذهب معطى لمعيار أنطولوجي قبلي. إننا نقوم بفحص المتغيرات المقيدة فيما يتعلق بالأنطولوجيا لا لمعرفة ما يوجد بل لمعرفة ما تقر تلك الملاحظة أو المذهب كونه، بصرف النظر عما إذا كنا متبناة من قبلنا أو من قبل غيرنا11.
في الجدل حول الذي يوجد، تظل هناك أسباب للمعالجة الدلالية. يتعين أحد تلك الأسباب في تجنب المأزق الذي استهللنا به هذه الدراسة؛ مأزق عجزي عن التسليم بأن هناك أشياء يقرها ماكس وأنكرها. طالما ظللت أناصر مذهبي الأنطولوجي، في مقابل مذهب ماكس، لن أستطيع السماح لمتغيراتي المقيدة بأن تشير إلى كينونات تنتمي إلى مذهبه ولا تنتمي إلى مذهبي. على ذلك، أستطيع أن أصف بشكل متسق الخلاف بيننا عبر تحديد الجمل التي يقرها ماكس. طالما اعتد مذهبي بأشكال لغوية، أو على الأقل بمخطوطات ومنطوقات عينية، سوف يكون في وسعي الحديث عن جمل ماكس. ثمة سبب آخر للركون إلى المستوى الدلالي يكمن في إيجاد أسس مشتركة للجدل. الاختلافات الأنطولوجية تشتمل على اختلاف أساسي في المخططات المفهومية، ورغم هذه الاختلافات، نجد، أنا وماكس، أن مخططاتنا متقاربة في تشعباتها الوسيطة والعليا إلى حد يمكن من الاتصال الناجح فيما يتعلق بمواضيع من قبيل السياسة والطقس، واللغة على وجه الخصوص. بقدر ما يكون بالإمكان ترجمة خلافنا حول الأنطولوجيا بشكل تصاعدي إلى جدل دلالي حول الألفاظ وما يتوجب توظيفها في إنجازه، بقدر ما يكون بالإمكان تأجيل نكوص الجدل إلى مرحلة المصادرة على المطلوب.
لا غرو إذن أن يصبح الجدل الأنطولوجي جدلا لغويا. ولكن يتعين علينا ألا نقفز إلى نتيجة مفادها أن الذي يكون إنما يرتهن بالكلمات. قابلية السؤال لأن يترجم إلى ألفاظ دلالية ليست علامة لغويته. أن ترى نيبلز هو أن تحمل اسما يفضي حين يسبق الكلمتين "رأى نيبلز" إلى جملة صادقة؛ ولكن ليس ثمة ما هو لغوي في رؤية نيبلز.