كتاب " جوانب من الخدمات في المدن العراق القديم " ، تأليف ياسر هاشم حسين علي الحمداني ، والذي صدر عن دار زهران عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب جوانب من الخدمات في مدن العراق القديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
جوانب من الخدمات في مدن العراق القديم
الفصل الاول
خدمات تنظيم مشاريع الري
حقق الانسان خلال رحلته الطويلة عبر الزمن الماضي, الكثير من المنجزات والاكتشافات والاختراعات, وكان من أهم هذه المنجزات اكتشافه للزراعة وتطوير مستلزماتها وتهيئة شروطها فالزراعة هي المرتكز الاساس في حضارة الانسان, وهي الاساس المادي الصلد لأوجه التطورات المختلفة التي عاشتها الحضارة الانسانية في جوانبها الفكرية والمادية, ويعد الماء الشرط الجوهري والرئيس لقيام الزراعة, ومصادره متعددة فمنه ما تغيث به السماء ومنه مياه العيون والابار, فالمياه كانت وما تزال العامل الرئيس لأستقرار الانسان, وقيام المدينة ونشوء الحضارة وتطورها(44).
وقد وجد في العراق القديم ومنذ العصور القديمة منطقتان زراعيتان متميزتان, عرفت الاولى ببلاد سومر واكد وهي تبدأ من اقصى الجنوب حتى الاراضي التي تجاور مدينة سامراء على نهر دجلة ومدينة هيت على نهر الفرات, والقسم الاعظم من هذه المنطقة صالح للزراعة والرعي ولكنه يعتمد على الري من الانهار, والمعروف ان نهري دجلة والفرات هما اللذان كونا هذه المنطقة (أي بلاد سومر واكد) وهما اللذان يرويانها وقد شقت فيها شبكة من الجداول والترع التي لا تزال اثارها واضحة والتي كانت تستخدم لسقي الحقول والبساتين, اما المنطقة الثانية فقد عرفت ببلاد اشور وتشمل معظم شمال العراق وفيها كثير من الأراضي الصالحة للزراعة وتعتمد على الامطار الديمية, وقد كانت الزراعة في العراق القديم حرفة غالبية السكان وكانت تتوقف جودتها على عناية الدولة بها من خلال العناية بالارواء والاهتمام بالانهار والسدود وخصوبة التربة فضلا عن جهود الفلاحين(45).
وقد كانت خدمات تنظيم مشاريع الري في العراق القديم قد شغلت حيزا مهما من اهتمامات الحكام والملوك ودعمهم المتواصل لتلك المشاريع وتشير الى ذلك العديد من النصوص ذات العلاقة ابتداءً من مطلع الالف الثالث قبل الميلاد وانتهاء بالعصر البابلي الحديث, بل ان هذا الاهتمام استمر حتى فترات التسلط الاجنبي(46) للبلاد نظرا لما كان يشكله هذا المرفق الحيوي من اهمية في انعاش البلاد اقتصادياً, ولم يكن الباعث على اضطلاع الملوك بهذا الجانب يقتضي ان تكون خدمات مشاريع الري ضمن مسؤولياتهم, وانما ايضا لاعتقادهم ان الالهة وكلتهم لاستلام زمام هذه المهام التي كانت من ضمن مسؤوليتها اساساً قبل ان تحيلها الى البشر للقيام بها نيابة عنها, وفضلا عن ذلك فقد كانت لدى اولئك الحكام والملوك الرغبة ايضا في تخليد اعمالهم والتفاخر بها امام الالهة اولاً ومن ثم امام شعوبهم والاجيال المتعاقبة من بعدهم ثانيا, وقد كانت العادة ان يُتخذ من حفر القنوات او كري الانهار او بناء السدود او غير ذلك من الاعمال الخدمية الخاصة بنظم الري حدثاً او نقطة تؤرخ بها السنون(47).
وكان لطبيعة ارض العراق القديم الجغرافية وموقعه اثراً كبيرا في نشوء أولى أنظمة الحكم الخاصة في عصر فجر السلالات(48) السومرية (2800 – 2370 ق.م) (49).
اذ اتسمت هذه الطبيعة, لاسيما في القسم الجنوبي منه بشحة امطارها وارتفاع درجات الحرارة فيها وبفيضاناتها المفاجئة والمدمرة, فكان على الناس إن هم أرادوا العيش برخاء واطمئنان, أن يعملوا متكاتفين من اجل حفر القنوات والجداول لري الحقول وتصريف المياه وكري الانهار واقامة السدود والحواجز لدرء اخطار الفيضانات, وتجميع القوى القادرة على صد أي هجوم خارجي لحماية القرى والمستوطنات الزراعية والممتلكات(50).
وقد تميز الوضع السياسي العام في عصر فجر السلالات بوجود عدد من الدويلات المستقلة المتعاصرة التي تقاسمت السلطة والنفوذ في المنطقة وكان لكل من هذه الدويلات, التي تسمى عادة بدويلات المدن السومرية, سلالتها الحاكمة وأدارتها الخاصة ونظمها وقوانينها المستقلة عن غيرها من الدويلات وظل التنافس بين هذه الدويلات مستمرا حتى بدأت المحاولات الاولى لتوحيدها وتأسيس دولة القطر الواحدة, فأضمحلت دويلات المدن تدريجيا وتفرد بعضها بالسيطرة, وما ان حل القرن الرابع والعشرون قبل الميلاد الا وقامت أول دولة مركزية في القسم الجنوبي من العراق ضمت تحت لوائها جميع دويلات المدن القائمة آنذاك وكان ذلك نهاية لعصر فجر السلالات وبداية لعصر جديد عُرف بالعصر الاكدي(51).
ويبدو أن الاعمال الجماعية اللازمة لتنفيذ المشاريع الخدمية الكبيرة كانت بحاجة الى أدارة مركزية حازمة تسيطر عليها وتنظم اعمالها وتوجهها لفائدة المجموع, شأنها شأن أي عمل جماعي, فكان ظهور تلك الادارات او القيادات والتي هي بمثابة النواة التي انبثقت منها اولى الادارات المركزية واولى انظمة الحكم, وحيث ان ثقة الناس في العهود المبكرة اقتصرت على الرجال القائمين على خدمة الالهة وهم الكهنة, اذ ان تصور الناس بكون الكهنة وسطاء بينهم وبين الهتهم, فكانت المعابد من اولى الابنية العامة التي شيدها العراقيون القدماء للاجتماع فيها واداء الطقوس الدينية(52), وفي عصر فجر السلالات كان للمعبد وكما تشير الى ذلك النصوص المسمارية الكثيرة المكتشفة في المعابد الاولى(53), اهمية كبيرة في حياة الناس اذ لم يكن مكانا للعبادة والقيام بالطقوس الدينية فحسب بل كان بؤرة المدينة ومركزها في مختلف شؤون الحياة الادارية والاقتصادية(54) والثقافية(55).
وتعد مشاريع الري واحدة من الخدمات المهمة والتي كانت تقدمها ادارات المدن القديمة ولاسيما في القسم الوسطي والجنوبي من العراق فضلا عن بلاد اشور, فقد تتمثل بحفر القنوات وكري الانهار واقامة السدود لدرء اخطار الفيضانات والاستفادة منها وقت الجفاف, فضلا عن خدمات النقل المائي, بل يمكن القول ان من أهم العوامل التي ساعدت على نشأة المدن وتطورها هي حاجة الناس الملحة الى خدمات مشاريع الري والتي لم يكن بمقدور الافراد والتجمعات السكانية الصغيرة القيام بها, فكان لابد من تجميع الجهود وتكثيفها وتعاونها وفق اسس منظمة, لذا نشأت اولى الادارات المركزية التي غدت فيما بعد أدارات مدن مهمة ومراكز حضارية, ومعظم تلك المدن, ان لم يكن جميعها واقعة على ضفاف الانهار والقنوات والجداول الرئيسة, وقد ارتبط ازدهارها واضمحلالها ارتباطا وثيقا بكفاءة خدمات مشاريع الري واستمرار ادامتها(56).
وطبيعي انه لم يكن بمقدور ادارة المدينة, سواء أمستقلة كانت ام تابعة لحكومة مركزية اخرى, ان تقوم بتنفيذ مشاريع الري وادامتها من خلال الموظفين العاملين في الادارة لديها فقط, بل كان لابد من تجنيد سكان المنطقة المستفيدة وتسخيرهم للعمل فيها مدة محدودة, فنشأ نظام جديد خاص بتسخير الناس للعمل في المشاريع العامة واصبح من واجب كل مواطن العمل في هذه المشاريع لفترة محددة من السنة فلابد من ضوابط وقواعد عامة لاسلوب تجنيد السكان وتسخيرهم(57).
وفيما يأتي اهم الخدمات المتعلقة بتنظيم مشاريع الري: