كتاب " جوانب من الخدمات في المدن العراق القديم " ، تأليف ياسر هاشم حسين علي الحمداني ، والذي صدر عن دار زهران عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب جوانب من الخدمات في مدن العراق القديم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
جوانب من الخدمات في مدن العراق القديم
المبحث الاول
حفر(58) القنوات(59):
يعد الحاكم او الملك في العراق القديم, المسؤول عن تحقيق رفاهية البلاد امام الالهة, وعليه ان يعمل على ازدهار البلاد وتطوير اقتصادها, وبحكم اعتماد الاقتصاد العراقي القديم على الزراعة بالدرجة الاولى, كان على الملك ان يعمل على تطوير هذا القطاع الاقتصادي الذي يعتمد على الري في المناطق الوسطى والجنوبية من العراق القديم, وبسبب قلة سقوط الامطار والحاجة الى حفر قنوات الري وايصال الماء الى الحقول الزراعية دفعت السكان الى التجمع والتكاتف وهذه من العوامل التي ادت الى نشوء اول انظمة الحكم في العراق القديم(60).
ويعتقد احد الباحثين ان خدمات حفر القنوات واعمال الري بدأت منذ دور العُبيد(61), وكانت على نطاق ضيق, فهناك دليل اثري من اريدو(62) يشير الى قناة قديمة قد دُفنت بالاتربة يرجح انها حُفرت واستعملت اثناء مراحل الاستيطان الاولى لهذا الموقع(63), وتبين الادلة الاثرية في احد المواقع عن القيام باعمال خدمات حفر القنوات من دور العبيد, اذ عثر في موقع جوخة مامي (في منطقة مندلي) على اثار قناة للري عرضها من 4-6م وهي تعود الى دور العبيد(64) الثالث(65).
ويبدو ان تنظيم خدمات مشاريع الري وخاصة حفر القنوات قد بدأت وعلى نطاق واسع في فترة الوركاء من العصر الشبيه بالكتابي (3500- 2800 ق.م), اذ ادى ذلك الى كثرة الانتاج وزيادة عدد السكان, كما ان دولة المدينة في عصر فجر السلالات اعتمدت على الري اذ كان الملك او ممثله يشرف على اعمال البزل والري, وحفر القنوات وصيانتها, وهذه الاعمال تتطلب جهدا مشتركا منظما, اذ كان الري بحاجة الى قواعد ونظم للاستفادة من قنوات الري للوصول الى الاسلوب الامثل لاستخدامها, والري احد الاسباب التي ادت الى ظهور التشريعات والنظم الادارية فضلا عن ايجاد وظيفة مفتش قنوات الري(66) وقد عرف فيما بعد باسم (كوكالو Gugallu) (67), وهو المراقب المسؤول(68) عن ضبط كميات المياه, او نجده مسؤولا عن توزيع المياه, وقد كانت مسؤوليته تتحدد احياناً بمراقبة قناة واحدة, فكانت حكمة العراقيين القدماء المشهورة حول مراقبة القنوات المائية تتمثل في النص الاتي: "الناس بدون حاكم مثل الماء بدون مراقب القناة" (69).
ولأهمية قنوات الري وفوائدها العديدة فقد حرصت السلالات الحاكمة على الأهتمام بخدمات مشاريع الري وذلك بالمحافظة عليها وادامتها باستمرار, وتعكس خدمات مشاريع الري وتنظيماته طبيعة السلطة القائمة, فكلما كانت السلطة قوية وتتمتع بسيطرة مركزية على البلاد كلما كانت امكانياتها اكثر لتنظيم خدمات مشاريع الري تنظيماً جيدا, وفي حالة ضعف السلطة المركزية كانت تهمل العناية اللازمة لحفظ شبكة القنوات التي تروي الارض مما يؤدي الى تدهور الانتاج الزراعي وهجرة السكان(70).
وكانت خدمات مشاريع الري ذات اهمية خاصة لدى السومريون والبابليون, فقد خصوها بالتعظيم, اذ جعلوها من جملة الالهة التي تمثل القوى الطبيعية ولا سيما نهري دجلة والفرات وذلك لدورهما الفاعل في حياة السكان, اذ ان الملوك كانوا يقدمون القنوات التي حفروها بوصفها هدايا الى الالهة مما يدل على ان خدمات حفرها كان عملا دينيا مقدسا, ففي الفترات السومرية الاولى, كان يتم الاحتفال في مدينة نفر بعيد خاص بالري تقدم فيه
القرابين(71) الى الاله انليل(72), كما تولى بعض الالهة شؤون الاشراف على الانهار والقنوات, فالاله "انكمدو آله القنوات والجداول عينه اينكي(73) لينظم شؤونها" (74).
وتذكر النصوص المسمارية الكثير من اسماء القنوات والانهار(75) ولكن من الصعوبة تحديد موقعها بشكل قطعي, وقد وردتنا قوائم(76) باسمائها من مكتبة اشور – بان – آبلي (اشور بانيبال 668 – 627 ق.م) (77) وهناك قنوات سميت باسماء الالهة واخرى باسماء اشخاص او اماكن او مدن او اسماء مميزة مثل القناة الوسطى وقناة بيت الحمَّار, وقد جاءت هذه القنوات باطوال مختلفة ابتداء من 12م الى 42م وعمق من 3-6م(78).
ويبدو ان خدمات حفر القنوات لم تكن بالامر السهل بل كانت تحتاج الى دراسات اولية وتخطيطات تمهيدية وخبرة كافية فضلا عن كمية كبيرة من المواد الاولية مثل القار والاحجار والمعادن, اذ كانت تكاليف خدمات حفر القنوات وادامتها ورفع الطمى عنها باهضة, وقد تحمل المعبد والقصر المال اللازم لدعم هذه الخدمات, وقد ورد في احد النصوص اشارة الى (مال) مخصص لاحدى القنوات مما يدل على تمويل الملوك لحفر واصلاح القنوات(79), فضلا عن ذلك ان حفر القنوات يتطلب توفير عددا كبيرا من الرجال (الايدي العاملة), فكانت السلطة المركزية هي القائمة بذلك, أي ان الحكام والملوك كانوا يقومون بحفرها ويمتدحون انفسهم لانجازهم هذا العمل الصالح, وعدت هذه القنوات اثراً خالداً يدل على حكمة اولئك الرجال الذين تفاخروا بانشائها وعلى شدة رعايتهم للناس والاهتمام بهم, والحقيقة ان تلك القنوات كانت تحفر بجهد المواطنين والاسرى(80), فقد اجبروا بالسخرة, على العمل بالمساهمة الفعلية او بدفع الضرائب لتمويل العمل(81).
وقد قام بعض الحكام والملوك بتنفيذ خدمات مشاريع الري ولاسيما خدمات حفر القنوات, فمن عصر فجر السلالات (2800- 2370 ق.م) وردتنا بعض من الشواهد النصية التي تؤكد اهتمام الحكام والملوك بخدمات حفر القنوات, فمن فترة حكم اور - نانشة(82) (2480- 2450 ق.م) نجد من كتاباته المسمارية انه قد كرس جزءً كبيرا من حياته في خدمة الالهة فضلا عن اهتمامه بخدمات مشاريع الري, فقد حفر العديد من القنوات والبحيرات
بهدف تنظيم مجرى نهر الفرات(83), وتوجيه مياهه الى الحقول التي تعتمد عليها لكش (
0), وقد سمى احدى القنوات باسم الاله انليل(85).