أنت هنا

قراءة كتاب بول ريكور والفلسفة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بول ريكور والفلسفة

بول ريكور والفلسفة

هذا الكتاب الذي أشرف عليه د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 5

الذات عين الآخر: هوية التجاوز والتجاور

د. حاتم الورفلي (تونس)
كثيرا ما يستعمل لفظ "الهُويّة" في الحقل المفهومي لكنه يقلّ تحديده بصفة منتهية وملزمة حدّا قد نرى فيه حاويا لكلّ المعاني التي تتقصّد الذات تعريفا وتحديدا، إذ يمثّل موقعا ومرجعا كلما أردنا تفسير أو تأويل الموجود، وتتقاطع ضمنه مختلف الحقول المعرفيّة بخطاباتها الكثيرة: الحقوقية، الأنثروبولوجية، السوسيولوجية، البسيكولوجية. هذا الإلمام ذو الإحالات المتعدّدة جمعا واختلافا، بساطة وتعقيدا، جعل مفهوم الهُويّة لا يملك "ثابتة" مفهومية يعود إليها كلّ تعريف. إنّ تاريخ الفلسفة لم يخل أبدا من "فلسفات هُويّة" اتخذت لها أشكالا متعددة وعناوين متنوعة[24].
نجد هذا الرأي حاضرا بقوّة في مجال علم النفس التحليلي حينما يرى في اللاّوعي مفهوما أساسيّا للكشف عن تحوّلات الشخصية وانفلاتاتها من الزّعم القائل بوحدة "الأنا" العاقلة والواعية. تتشظّى هذه الوحدة إلى كثرة ديناميكيّة وتُجزِّئ الجهاز النفسي للإنسان إلى مناطق ثلاث (الأنا- الأنا الأعلى- الهُو) يحكمها منطق الصراع والمواجهة انطلاقا من مبدأيْ اللّذة والواقع.
إنّ التصوّر الفرويدي مبنيٌّ في هذه اللّحظة على "الصّراع" كخاصيّة بنائيّة للذات لا تكون خطيّة ومتتالية بصفة منتظمة وإنّما هي جدليّة علائقيّة بين الذات والموضوع. مثل هكذا دينامية وجدليّة تستدعي سيرورة (هُوُوِيَة) تتخطّى القول بالثبات والاستقرار لتأخذ "الهُويّة" معان مختلفة ومتغايرة: بين القول بالمشابهة (مشابه لذاته) والمماثلة (مماثل لذاته) والمغايرة (التفرّد والانمياز). كلّ هذه المعاني تتحدّد بخاصيّات مشتركة لتدل على ذاتها كما تُدرَك هذه المعاني من جهةٍ مقابلةٍ بميزات فريدة نفصلها عن غيرها. يصبح لمعنى "الهُويّة" جانب جدليّ تُحال فيها هذه المتقابلات بعضها لبعض:
المماثل/المغاير؛ الفردي/الجمعي؛ الوحدة/الكثرة؛ الذاتيّة/الموضوعيّة...[25].
إنّ تصوّر الهُويّة في شأن كهذا تدرك ضمنه الهُويّة بإحساسها بواحديتها وتفردّها عن غيرها كما هي شعور بالانسجام والتآلف مع إنّيتها. إنّها انتهاء ما يخصّها دون أن يخصّ غيرها[26].
ويبقى إجراء العلاقة كأخطر إجراءات الحصر الأنطولوجي التي تستخدمها ميتافيزيقيا الوحدة لاختزال التعدد وإبعاد التشتت. فالبحث عن إيجاد نظام لظواهر العالم واحتمالات حدوثه، يتم في إطار هذا الإجراء الذي يحتل الموقع الأساسي داخل أي تفكير كيف ما كان نوعه. إنّ معرفة العالم ليست في نهاية المطاف إلا عملية بحث عن علاقات خلق يتمّ تصنيفها كي تتيح كل تفكير يريد أن يكون. وهو كذلك السند المحوري لفكرة الاتصال بين الأشياء والأحداث، بين الذات وغيريتاها اللواتي تقدم العالم في ترابط وتناسق وانتظام تعمل على إلغاء التعدد والاختلاف وتسمح بوجود قانون للعالم وأنظمة وهويات وبنيات كما يتعذّر على الوحدة أن تقوم دون ثنائية[27].
إن عملية الحصر الأنطولوجي التي تستهدف سيلان الموجود وتدفقه ليست عملية تامة. بل هي مجرد محاولة لضبط الوجود والإمساك به، لكنه يندّ عن الضبط والإمساك والتقنين والتحديد. فهو تدفق وكثرة مسترسلة من الاحتمالات المشتتة التي تحدث بمحض الصدفة والمفاجأة. "أصبحنا الآن مع تطوّر النسبية الفيزيائية والكيمياء الحرارية الدينامية نميل إلى أخذ اختلافات العالم الطبيعي وتغيّراته المتواصلة وصعوباته الشّائكة بعين الاعتبار"[28]مبتعدين عن النظرة الكليّة للكون، فكل عملية من هذا القبيل لن تكون إلا احتمال حدوث ضمن احتمالات لا متناهية، تتضاعف وتعدد... مثلما أنّ أي حديث عن الهُويّة مهما ادعى لنفسه امتلاك الحقيقة، فإنه يظل مجرد كلام منهار، يدمر نفسه بنفسه ذلك أنّ "الإنية تتقيّم داخل الغيرية كما الأنا داخل الآخر"[29].
تسبب استعمال لفظ الهُويّة في خلط والتباس، إذ غالبا ما تفهم الهُويّة فهما مطلقا ومعزولا عن كل الظروف أو الشروط القائمة وكأن الهُويّة تعني أنّه من الواجب على الذات أن تماثل ذاتها بممايزتها عن الغير، وما يفترض ذلك من عدم الأخذ من ذلك الغير فكلّما قلّ الاقتباس من الخارج والتفاعل معه، تزداد حظوظ المحافظة على التشكيلة الاجتماعية وعلى نفوذ التقليدية فيها. يرى برميندس أنّ "إيمانك بالواحد الأحد هو إنكارك لما لم يكن واحد أحدا"[30]وهو ما يعني رفض الكثرة لنتمكن من صياغة قولا في الوجود بصفته وجودا لأنّ "الوجود موجود واللاّوجود لا يوجد البتّة"[31].
إنّه إزاء الهُويّة الثابتة ثمة هُويّة التغيّر والنّمو في التاريخ، وإزاء هُويّة الحصر ثمة هُويّة التعدّد التي تؤسس للاختلاف والتنوّع. وإزاء الهُويّة الماضوية، ثمة هُويّة واقعية ومستقبلية، وإزاء الهُويّة العرقية ثمة هُويّة إنسانية. ذلك لأن الذات التي تتحدد بذاتها هي فقط الخواء والعدم، والذات التي تستمد مقوماتها من عصر "ذهبـي نقي"، هي ذات مريضة بالفصام غير أنّ الذات تتحدد دوما، وفي كل زمان مكان بالآخر، آخرها، بل هي الوحدة الديالكتيكية بين الأنا والآخر وتستمد مقوماتها من تعينها الواقعي في التاريخ الذي هو دائما تاريخ التغير والتحول، والذي هو دائما توقّع الممكنات...[32].
وفي ضوء كلّ ذلك نستطيع التمييز بين صيغتين للهُويّة تحصر أحدهما في مجال الفكر والثقافة فيتحول لديها مفهوم الهُويّة إلى مفهوم الجوهر الثابت والسرمدي، والثانية تضعها في مجال التاريخ والصيرورة الاجتماعية فيرتبط لديها مفهوم الهُويّة بالفاعلية الإنسانية الحية وبفكرة التاريخ والتغير ومفهوم التقدم. إننا بالفعل "لا يمكن أن نسبح في نفس النهر مرتين"، ذلك هو الدرس الهيرقليطي الذي يبسط لنا تلازم الصيرورة في صلب الجوهر أو الحركة في صلب التكرار. مثل هذه اللحظة الهيرقليطية كانت دعوة للتفكير في الصّيرورة والسيلان. وهو ما نتبينه من خلال شذراته المتفرقة حيث يحمل على الوجود صفة الصّيرورة المسترسلة وحتميتها فيقول "الكلّ يسيل الكل يتغيّر"[33]، "النّار ترتاح بتبدلها"[34]. "ليس بإمكاننا أن ننـزل مرتين في النّهر"[35].

الصفحات