أنت هنا

قراءة كتاب بول ريكور والفلسفة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بول ريكور والفلسفة

بول ريكور والفلسفة

هذا الكتاب الذي أشرف عليه د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 7

تعرَّف الهُويّة بانتماء كلّ فرد إلى عائلته، طائفته، الطبقة الاجتماعيّة التي ينتمي إليها و"بنو جلدته" كوجود سابق عن وجوده ويحفظ له مكانة ويخصّه بمرتبة داخل الانتظام الاجتماعي بين التحيليلي والواقعي كإحالة للوجود الهُووي للذات يُؤسس الرّمزي كلماتٍ إشاراتٍ للذات يعيّنها فتنخرط في انتماء ثقافي عرقي قومي... فنحن لا يمكن أن نفهم زخم الهُويّة الإنسانية بآلية فهم أحادية بل بضرب جديد من "فهم وتأويل المشاعر إلى جانب فهم الروابط مع الآخرين والماضي والمستقبل والمطلق (...). وبالجملة فالهُويّة تقدّ من تلك الكيفية الخاصة للتموضع داخل الفضاء الثقافي"[43]. إنّ شعورا حميميا بالوجود لا يتأكّد إلاّ عبر تجربة خاصّة يخالطها إمكان خضوع للآخر الماثل قدّام الأنا لحظة التشكيل وإعادة التشكيل للأحداثٍ محطاتٍ لازمة لتحديد الهُويّة. يكون لهذا الشعور قوّة قادرة على تحطيم "أسوار" الذات إذا هي انكمشت وتقوقعت وإنّ زَهْوا بنفسها فيصير كلّ الوجود انفتاحا ضروريّا وحيويّا للأنا والآخر وطيّعا للفهم غير عَصِيٍّ. ولعل مكوّنات هذا الوجود على اختلافها وتقاطعها تتحدّد ثقافيّا بوسائط لغويّة ترسم للذات إيتيقا بها تكون ووفقها تصير. فهُويّة الذات تتحدد داخل هذه "الشبكات التحاورية"[44]المترامية الأطراف وليس فقط صلب العلاقات الاجتماعية المكتسبة.
لكلّ ذلك تستعين الذات بمختلف التطبيقات الأدبيّة والممارسات النقديّة لفهمٍ أكثر لعينيتها والعناصر التكوينيّة لوجودها من زمان وفعل وسرد يبقيها دائما منفتحة على الممكن وقاصدة منتهاه. لقد كان لزاما على الذات حتى تتعرّف على ذاتيّتها ألاّ تكتفي بنوع أحادي للخطاب وإنّما هو استدعاء ومضايفة لبقيّة أنواعه وذلك بشتّى التراكيب والجمع والحوار في فضاء المعرفة بصنوفها المتكاثرة (لسانيات، علم النفس، التاريخ، الأنثروبولوجيا...) حتى تبيّن التجربة الإنسانية بثرائها وتنوّعها وحتّى تعقيداتها[45]! لن يصح هذا الزعم ويتحقّق إلاّ متى استجاب لشروط إمكانه ألا وهو "الآخر" طرفا أصيلا في الوجود وأساسا واجبا في الاتصال والاعتراف لأن الأنا كما الآخر منخرط في تجربة إنسانية ممتلئةً وجودا ومُشَكَّلةً سردا.
يصير القول ممكنا إذن أن الذّات تحيا وضعية لا يتوفر فيها "حجر ثابت" تستقرُّ عليه أو تجعل منه نقطة ارتكاز حتى تتمكّن من التعرّف على ذاتيتها وتكتسب من المعاني ما يؤهّلها أن تتعرّف على "الآخر" بأشكال حضور المتعددة. إنّ على الذات أن تترحّل في ثنايا الوجود ومعالم الزمان وعلاماته كي تكون قادرة على مواجهة المآزق الأكسيولوجية والاستتباعات الحاصلة منها وأن تراهن أنّ التجربة الإنسانية موسومة بالنقص والحاجة إلى مجاوزتها دون اعتقاد واهم في الكمال والتعصّب الذي يكون إقصائيا وعنيفا في كلّ تعبيراته. وحتّى لا يتصيّر كلّ الوجود إلى نفي وإلغاء للمجاور ضرورة، وجب أن تتعلم الذات "التسامح" لِزاما طالما أنها تريد أن يقتنع الآخر بطروحاتها لذا فإنها تكون مدعوة إلى فهم واستيعاب طروحات غيرها دون تعنيف له أو إلغاء. يكون "التسامح" جائزا في أفق حرّ يؤمّن فضاء للتعبير والاختيار ليس وجوبا أن يحصل إثره اتفاق بإطلاق بل يبحث عن بقعة تتشارك فيها الذات والآخر وعلامتهما "الإنسانية" قيمة رمزية دالّة على الحضور والبقاء في مجال الانفتاح والمغايرة.
وإنّه إذا سلّمنا جدلا أننا نعيش عصر نهاية الاختزالات التبسيطية للظواهر المعقدة ولا يمكن إقصاء التعدد والاختلاف داخل الهُويّة الواحدة فقد انتقلنا من منطق الوحدة إلى التعدد، ولم تعد الهُويّة "جامدة" و"جوهرا" خالصا بل خليطا من التمازجات والتداخلات والتفاعلات الثقافية المركبة، لذلك فان الهُويّة ليست فعلا نهائيا بل إنها حضور حيٌّ متجدد ومفتوح على التعدد والاختلافات ومتفاعل مع الزمان والمكان والأنا والنّحن[46]. إنّ مفهوم الهُويّة في صورتها الحصرية التبسيطية التي تنتصر إلى القول بأنّ لكل فرد هُويّة واحدة ثابتة، يتحدّد ويتمايز من خلالها ويقيم نفسه على أساسها، وعبرها يتم تقييم مواقفه، هي مجرد وهم يخفي صورة مزيفة للذات، فشخصية كل فرد وطبيعة كل كيان ثقافي تتشكل من خلال التفاعل الجدلي، والتركيب الخلاق والتصادم بين هويات متعددة. لهذا فإنه كان لزاما إعادة مساءلة مفهوم الهُويّة- الغيرية في أبعادها المختلفة وفي علاقتها بالتدافع الثقافي، قصد منح إمكانات أفضل لفهم الاستراتيجيات الهووية لمختلف الأفراد والشعوب في علاقاتها بالحراك المقاوم للاستقطاب والاختزال في تصنيف ضابط لا حياد عنه أو مروق، ولهذا فالهُويّة علاقة جدلية بين الأنا والآخر مشكلة ومتفاعلة مع الزمان والمكان.
اشتغلت المدوّنة الرّيكورية على الخطاب تحليلا وتأويلا لجملة القضايا الأنطولوجية وأنماط العلاقات الممكنة بين الذوات ومكوّناتها لتؤسّس نـزعة إنسانية تروم الكونيّة سبيلا منفتحا على المجاور وقابلا للاختلاف معه على نحو تفاعليّ لنجد لدى ريكور علامات دالة على منظوره المنهجي والمعرفي تدور على مفاهيمَ مفاتيحٍ تجعل من فهمنا له ممكنا، فالزمنية- مثلا- نوعان أحدهما يقال عن الوجود في العالم مع الآخر والثاني يعبّر مضمونها عن زمنية أعمق تحاول فكّ رموز الموت والانتهاء والديمومة والبقاء، أمّا التاريخيّة فهي استحضار الزمان تفكّرا وتأملا في الوجود بدلالاته ومقاصده ومعانيه ويمثّل السرد منـزلة أنطولوجية يمكن للذات أنّ تتعرف بها على ذاتيّتها كما تدرك العالم من خلال أنواع المسرودات المختلفة (أسطورة، قصّة، رواية...) وتُحيل التأويلية إلى المعاني المختلفة للنص عن معناه الأوّلي لتكون الوساطة ممكنة بين الإنسان والعالم وهي كذلك قائمة بين الإنسان والإنسان وحاصلة بين الإنسان وذاته على نحو من الفهم والاتصال..

الصفحات