أنت هنا

قراءة كتاب بول ريكور والفلسفة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بول ريكور والفلسفة

بول ريكور والفلسفة

هذا الكتاب الذي أشرف عليه د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 6

يمكن القول مما تقدم أنّ الهُويّة جملة من العلاقات والروابط العقلية (اجتماعية- اقتصادية- ثقافية..) نسجها تطور تاريخي محدد في الزمان والمكان، قاصدة أبعاد ثلاث هي: علاقة الذات بذاتها، وتنطوي على النرجسية يقابلها شعور بالدونية. وعلاقة الذات بالموضوع، بالعالم الطبيعي والاجتماعي، وعلاقة الأنا بالآخر وتنطوي على المحاكاة والاقتداء... ويقابلها الاستقلال والذاتية، وهي في هذه الحيثيات جميعها وحدة الوعي والوجود؛ الفكر والواقع؛ التماثل والاختلاف؛ الوحدة والتعدد المؤسَّسة جميعها على مبدأ النفي الحامل فكرة التاريخ ومفهوم التقدم. يشير ريكور في مثل هكذا سياق إلى "تباعد قَصِيٌ بين دوام الذات وذاك الذي لا يختزلها ليعود الواحد إلى الآخر"[36].
تتحقّق هُويّة الذات عبر تحوّلات تحكم الفرد في وجوده البسيكولوجي وكذلك الاجتماعي حينما يعاين ذاته ليس على نحو نهائي وإنّما تقصّ وبحث مستمر على استقلاليّته علّه يظفر ببعضها. يمكن إذن أن نوجز القول أنّ الهُويّة هي تقاطع بسيكولوجي (همه الرّغبة في الوجود) وسوسيولوجي (التموضع داخل الاجتماع). وجب لكل ذلك أن تعمل الذات على إيجاد مواطئ وقوف تملك من خلالها ملامح وجودها الواقعي والتخييليّ لإبراز وحدتها وانسجامها إن كان ذلك متيّسرا لها. لعل هذا الاعتبار يجعل من كلّ فرد حاملا ثقل هويّته ومترحّل من فضاء إلى آخر يصارع من أجل الوجود والاعتراف بكل الأشكال الرمزيّة المتاحة التي تشكّل الهُويّة ذاتها.
هكذا يبدو خطاب الهُويّة "خطابا متشابكا، لأنه يتحرّك في مجالات متعددة"[37]. تتحدّد الهُويّة، على الجملة، في ذات الوقت بخواص موضوعيّة انطلاقا من علامات متعيّنة وعناصر ذاتيّة تحيل إلى تمثّلات الذات لذاتها وعلاقاتها المتداخلة مع الآخر المقابل لها. مثل هذه المحددات بعضها ثابت مستقر على حاله وبعضها الآخر يستطيع التغيّر والتبدّل. بهذه الخواص الثابتة والمتغيّرة في فضاء الزمن تحتفظ الذات بوعيها الخاص وحدة واستمرارا لكليّتها كما يدركها الآخر بما هي كائنة لحظة التعرّف عليها رغم التغيّر الدّائم والثبات الحاصل: هكذا تكون الحياة اتصالا وانفصالا، أحداثا ورؤى لها أن تنحت للذات مسارات مختلفة.
تخضع الهُويّة لهكذا تحديدات وتعريفات وفق اعتبار اجتماعي وآخر تاريخي يظهر فيها الفرد على طرف خاص به يضمن تماسفا بينه وبين حاضنته الاجتماعيّة علّه يحظى باستقلالية تحقّق له مكانة فريدة له دون سواه. تعدّ هذه المسألة رهانا تحرّريا تمكّن الذات من القيام بدور خاص داخل نسيج اجتماعيّ تشابكيّ يحضر فيه الفاعل والمنفعل والمفعول فيه وبه حتى تصير هذه الذات قادرة على فعل البناء والتركيب داخل فضاء اجتماعي مُتَشَظٍ يريد أن يكون متآلفا وذو معنى ودلالة لوجوده. ولهذا تمتد مباحث الهُويّة في كل الاتجاهات وتقع في مفترق طرق اختصاصاتها عديدة: فمن الهُويّة كمنطق صوري ورمزي يلاحق مواطن التناقض في الأشياء(موضوع علم المنطق) إلى الهُويّة كبحث عن وحدة مفترضة للوجود تلاحق بدورها مواطن التكثر والحركة، باحثة عن أصل مرجعي ثابت (موضوع الميتافيزيقا) فـ"كلّ الإشكال دائر حول بحث عن "ثابت عقلي" يعطي معنى متين عن الديمومة في الزمن"[38]، وصولا إلى تمثل العلوم الإنسانية لمسألة الهُويّة باعتبارها آليات إثبات وجود فردية وجماعية مكتسبة، لا صلة لها بإحراج الماهية أو الأصل أو السكون[39].
إنّه إذا كان كلُّ واقع ثقافي حَمَّالَ تعدّدٍ وتكثُّر واختلاف، فإنه يتمظهر، رغم هذا التعدد والاختلاف، بسمات تكشف عن تجانس ملحوظ داخله، وهذا ما يبرر استعمال مفهوم الهُويّة، بشرط الحذر من الوقوع في رؤية ماهُويّة أحادية ثابتة نافية للاختلاف. فحينما نقارب مفهوم الهُويّة بوصفها "ثابتا ومتغيرا" فهي ليست كينونة ثابتة الخصائص والمقومات فقط، بل يزدوج فيها الثابت والمتغير. وبذلك فمفهوم الهُويّة بمدلوله المنطقي الثابت لا يصدق إلا في مجال المجردات كالمنطق والرياضيات، وإن كان هذا المبدأ قد صار موضوع أخذ ورد حتى في هذين المجالين. أما في مجالات الواقع والحياة فالتغير والثبات متلازمان[40].
نقرّ إذن، أنّ الخطابات التي تفسر الإنسان تأويليا لم تخرج عن التأويل (تأويل التأويل)، وبالتالي أنتجت صراع التأويلات وتعددها وفق تصورات ذاتية (ميتافيزيقا الذات)، ولكن بمحاولة تجاوز مفهوم الماورائيات فإنها تقود إلى تحليل مفهوم التجاوز ذاته، وبالتالي فإن السؤال يبقى رهين صراع التأويلات والبحث في مفهوم التجاوز عن المسارب والمسارات التي تؤول إلى متناهيات يصبح فيها الإنسان صورة، أو رقما في معادلة ما، أو مجموعة أوراق ثبوتية يتم التحقق بواسطتها من هويته، شكله، صلاحيته، عنوانه، وجوده..
وفقا لكلّ ذلك يمكن أن نستخلص أن صراع التأويلات هو في حقيقته اضطراب في مفهوم الهُويّة ومعانيها المتقبلة بل حتى تلك المتناقضة التي عبّرت عن "تلعثم" العقل البشري لمدة تاريخية طويلة وحقنته بجرعات قلق(التشكيك الدائم في الحقيقة الإنسانية)[41]، هكذا ظهرت مسميات عدة ساهمت في تأسيس خطابات أعلنت عن اختفاء الإنسان وموته، نهاية التاريخ، نهاية الكتابة، نهاية اليوتوبيا، موت الإله، موت المؤلف... فهل يمكن القول أن الهُويّة داعمة الصراع الطبقي الذي ما زال يهيمن على الفكر، الإنساني عموما؟؟ أم أن الصراع في حقيقته هو صراع تأويلات تتجاوز المفهوم السائد لتطل على الواقع من خلال إرادة المعرفة وأوهام الفكر؟
وجب لكلّ ذلك التحول من الهُويّة إلى الهويات، بتحريرها من صبغتها التوحيدية المقصية للآخر، وإخضاعها للنقد والتمحيص، وأقلمتها مع إحداثيات العصر، وفتحها على المعارف، فالهُويّة ليست تأصيلا لكيان، ومجرد تجريد ذهني ميتافيزيقي، فالحضور في العالم يمثل كنه الحداثة، فهي تعريفا نقطة استكمال الدورة الجدلية للتفاعل الحضاري ومجموعة العمليات التراكمية التي تطور المجتمع اقتصادا وإبداعا وتعبيرا، بجدلية العودة والتجاوز[42].

الصفحات