أنت هنا

قراءة كتاب بول ريكور والفلسفة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بول ريكور والفلسفة

بول ريكور والفلسفة

هذا الكتاب الذي أشرف عليه د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 8

تجليات سؤال الغيرية لدى بول ريكور

العربي ميلود
قسم الفلسفة - جامعة مستغانم. الجزائر
- الهرمونيطيقا كتأسيس منهجي للبحث:
يقول بول ريكور معرفا منهجيته المزاوجة بين الظاهرية والتأويلية: "إن التأويل هو عمل الفكر الذي يتكون من فك المعنى المختبئ في المعنى الظاهر، ويقوم على نشر مستويات المعنى المنضوية في المعنى الحرفي. وإني إذ أقول هذا، فإني أحتفظ بالمرجع البدئي للتفسير، أي لتأويل المعاني المحتجبة، وهكذا يصبح الرمز والتأويل متصورين متعالقين. إذ ثمة تأويل، هنا حيث يوجد معنى متعدد. ذلك لأن تعددية المعنى تصبح بادية في التأويل"[47].
نستشف من هذا النص أن منهجية ريكور في تحديد المفاهيم تقوم من خلال الترحال بين تأويلات عدة ومقاربة صراعاتها، حول معاني الأشياء المعطاة، لأن المفهوم يحمل في ثناياه معاني متعددة، وعادة ما يكون تعاملنا مع هذه المفاهيم بوجهة نظر تلقائية مباشرة، تخضع لنظرة أحادية موثوقة للمعاني الظاهرة وكأنها حقائق مطلقة، هذا ما يحجر الذهن على التعامل معها على نحو تساؤلي يعيد النظر إليها بطريقة تأويلية متفتحة، ومع حضور سلسلة تأويلات حيال كنه هذه الموضوعات وعللها وغائياتها وآلياتها تزول تلك الرؤية الأحادية، وتتقلص الحقيقة المطلقة فتنكشف مثالبها وحجبها، فتحيلنا إلى البداية من جديد، أي إلى تعددية المعنى الظاهرة من خلال الهرمونيطيقا، لتبدأ هذه الأخيرة 'تحليلا في فهم البنى الرمزية، وإنها لتتابع فتقيم مواجهة بين الأساليب الهرمونيطيقية، كما تقيم نقدا لأنساق التأويل، محيلة تنويع المناهج الهرمونيطيقية إلى بنية النظريات المناسبة (..) وهي بذلك تعد نفسها لممارسة مهمتها العليا، والتي ستكون تحكيما حقيقيا بين الادعاءات الشمولية لكل واحد من التأويلات"[48].
تأويلية ريكور لا تخضع المفهوم لتأويل واحد، بل تحاول أن تضبط مسار هذه التأويلات المتعددة لتنـزهها عن الفوضى والاعتباطية، وتضعها في مجراها المنهجي والدلالي السليم، وبهذا نجد بول ريكور يتجه أكثر نحو ضبط المفاهيم ضبطا يقيم من خلاله حواصل نظرية وإجرائية، مترفعا عن المسوغات التي تطرحها منهجيات التأويل الأوحد والتي عادة ما تمارس سلطة مركزية في ضبط حدود الفهم لمعاني الأشياء.
و"بهذا يكون ريكور قد امتحن ذاته في مرآة التأويلات المتقابلة التي ما انفك يستقي من منابعها الأطر الفكرية والأشكال المفهومية، ويتجاوزها بصناعة مفاهيمه الخاصة"[49].
فكيف سيصنع بول ريكور شبكته المفهومية الخاصة بكل ما هو محايث ومجاور لمفهوم الغيرية؟
ريكور في سياق إرساء مفاهيمه الخاصة حول الذات والغيرية يعود دوما إلى الكوجيتو، إلى الذات التي جعل منها ديكارت محور الحقيقة في هذا الوجود، أو سر ارتباطه بهذا الوجود، فالأنا الديكارتية لطالما سعت لأن تبلغ التأسيس المطلق والنهائي ما يجعل الأنا أفكر مغالية في العظمة إلى أقصى حد ممكن، وهذا التعالي للأنا لم يقتصر حسب ريكور على ديكارت وحده بل امتد إلى كانط ومن ثمة إلى فخته ليصل إلى هوسرل من خلال مؤلفه تأملات ديكارتية.
غير أن أزمة الكوجيتو لا يجب مطالعتها بعيدا عن أصل انبعاثها، فما تلاه لا يعدو أن يكون تبعات مفهومة الحدوث، إذ يقول: "يكفي أن نحاول أن نتحقق من هذا الطموح في مكان ولادته، أي عند ديكارت نفسه، كي نرى أن فلسفته تشهد بأن أزمة الكوجيتو كانت متزامنة مع تأكيد الكوجيتو"[50].
لحظة تأكيد الكوجيتو كانت لحظة راديكالية، حينما وظف ديكارت شك لا يمكن فهمه وتوظيفه خارج الميتافزيقا. مصحوبا بصورة خرافية تتوهمها هذه الأنا وهي شيطان وروح خبيث تضلل آرائي.
غير أن هذا الكوجيتو ستتعقبه مطرقة نتشه، أراد توظيفها ليحطم بعدميته إرثا فلسفيا في فهم الذات وعلاقاتها المتشعبة. فبلغ هذا الكوجيتو ذروة نقده مع نتشه، الذي يسميه ريكور بالمناوئ الأكبر لديكارت. فـ"نعرف جيدا أن نتشه انتقد بشدة المفاهيم التقليدية للوعي، للذات والروح، فرفض الاختلاف المفترض بين ما هو داخلي وما هو خارجي، ليمثل لحظة أساسية في هذا النقد"[51].
لكن لم تحطم هذه التفكيكية النتشوية هذا الكوجيتو بشكل كامل، لأن الذات لم تمت حسب ريكور بل أضحى هذا الكوجيتو مجروحا، بسبب نتشه أولا، وبسبب إلغاء الآخر، وجعل التفكير ينصب بشكل مطلق حول الذات الفاعلة.
وأمام هذا التصور السلبـي للكوجيتو، والمنظور إليه من زاوية ارتيابية، تتراءى من خلالها الذات على أنها أكثر تشاؤمية، وأمام غياب تصور فلسفي لغوي كمعيار يضبط وفقه مغزى الوجود الإنساني وكوسيلة للتعامل مع المعاني المتعددة للذات والآخر، سيختار ريكور فكرة التوسطية بين الذات والآخر، أي إلزامية استحضار هذا الآخر والإنصات إليه، لأن وجوده ضروري في بعث ذات فاعلة تترحل في بوتقة نسق يدعى الغيرية، يمكننا من خلاله أن نكّمد جراح هذه الذات المجروحة، وجعلها أكثر انفتاحا على هذا العالم وعلى كل ما هو مختلف فيه، مدركة في الآن ذاته المسافات الزمنية بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وبالتالي فإن "هذا الفعل يسعى لتيسير الحوار بين ما كل هو مختلف، ويبحث في المسافة الفعلية داخل العلاقة القائمة بين الأنا والآخر، القريب والبعيد، بمساعدة التقسيم الموجود للوجود الكلي المنبث بين ثقافات متعددة"[52].

الصفحات