كتاب " طبيب في الجيش " ، تأليف د. ياسر سبسبي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب طبيب في الجيش
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
طبيب في الجيش
1
كان نائماً تلك الليلة في المستشفى الصغير الجاثم على أطراف البلدة. استيقظ مع شروق الشمس، نظر من نافذة غرفته الصغيرة إلى البحيرة الفضية التي تستلقي بين هضبتين ناعستين كما تستلقي الفتاة الحالمة في أحضان الحبيب، ويقفز النهر المشاغب من مضيق نهديها النافرين ويجري جاهداً في بطن الوادي المشرع للريح، ليروي جسد الحقول الناعمة بالخضرة والمحبة، فتزقزق الطيور على ضفافه وترعى القطعان الوديعة. من المهم أن تظل مسافة من العفة بين الناسك والمشاهد الملأى بالإثارة، فكيف لا ينجرف الخيال نحو اللذّة وهناك على الضفة المقابلة تتراءى له قلعة جعبر نصف عارية، تجلس القرفصاء بإغراء فوق ذاكرة التاريخ، وعلى هذه الضفة تتعرى همومه لتغسل الجسد المثقل بقذى الأيام الماضية، وعندما تجهده فكرة السباحة العارية يرتدي همومه ويعود إلى نفسه القلقة.
غسل وجهه من بقايا حروف النوم المغترب، وارتدى بزّته العسكرية على عجل، ثم نظر في المرآة إلى عينيه الذابلتين المحمرتين بسبب الحساسية المزمنة في ملتحمته، التي يحسبها نتيجة رائحة الكساد التي تفوح من سلة سنوات عمره الثلاثين!
كان، عادةً، يناجي حبيبته ريم كلما نظر إلى وجهه في مرآتها.. يرى وجهها يقارب وجهه بشيء من الشبه، وشيء من التناقض المحبب، وأحياناً يمتزجان بلوحة تشكيلية غريبة، عيناها الواسعتان الجميلتان تحتويان عينيه بشيء من الحلم المستسلم بطغيان، تتماوج خلالهما أشعة وظلال بين الجرأة المخيفة والخجل النافذ، بين التردد المتصاعد والأمل المسطح. وشفتاه الواسعتان تسوّران شفتيها الضيقتين بشكل يوازي حدود الليل والنهار، بارتعاشة بين احتراق الصخب وعبقرية الصمت...اعتاد أن يصف وجهها في مرآة وجهه:
ـ تُسرجين الزمان حصاناً مطيعاً، في ساعدي، فتقودين انفعالي. وأسرج في نبضك ظلّ المساء..فأقود الليالي. تقصّين ريشات الجنوب بناظري، ومن يديك يفرّ جناح الشمال. وتسيل رجولتي في خوابيك عطاءً، فلا تجـرفيها بالسلال. فهل تجوبين حقول شبابي، ولا تصعدين مثل أفكاري التلال؟. فكيف تريدين مني الجواب، ولا تبحثين في عذابات السؤال؟.
لكنه هذه المرة، صفّف شعره المسترسل الناعم، وبعضاً من أفكاره المنفلته في المرآة الصغيرة التي أعطته إياها هيفاء، تلك الممرضة البدوية السمراء النشيطة الجريئة. إنه يتذكرها كلما نظر إلى تلك المرآة التي تأخذ شكل القلب ويقول في نفسه:
ـ كم لامست أناملها الناعمة هذه المرآة المحرومة، وكم صففت شعرها وبعثرت أحلامها فيها.. أظنها قبّلت نفسها كثيراً على الضفة الأخرى من المرآة، ناثرة الشهوة على كل السابحين بين الضفتين، فهي تعرف كم هي جميلة وذكية وموفورة الحيوية، ماهرة في السباحة، لكنها قليلة الحظ في الصيد، وسلالها ما زالت فارغة. تقول إن أمها وجدّتها وخالاتها يفتّشن كل يوم سلالها عن قبلات أو وعود عاطفية!.
كانت هيفاء أوّل ضحكة بكر صادفها تولد من عذرية المستشفى، فتغلغل صداها في قاعات واسعة وفارغة على حدود ذاكرته المتخمة، وكانت أكبر نقلة نقلته من جوّ الذكورية الممتلئة بأشواك القنافذ تلك التي يعيشها في الثكنة، سحبت أطراف مشاعره بهدوء إلى جوّ فيه بعض الأنوثة والإنسانية، فربما تكون لها بعض المعزّة في قلبه الوحيد.
تذكّر، وهو يقفل باب غرفته الفارغة من الأشياء، ويفتح باب النهار المرتدي بزة عسكرية، أنها قالت له البارحة:
ـ لا تتأخر فالمستشفى لا يساوي شيئاً بدونك..