أنت هنا

قراءة كتاب بالأمس كنت هناك

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بالأمس كنت هناك

بالأمس كنت هناك

كتاب " بالأمس كنت هناك " ، تأليف زياد أحمد محافظة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 5

بدأت أشعةُ الشمس تتسللُ إلى الطائرة، وراحَ الركابُ يتململون في مقاعدهم ويغالبون لحظات النوم الأخيرة... إنه صباح مشرق وصافٍ كرائحة القهوة التي بدأت تعبقُ في أيدي المسافرين، فتزيد الاستيقاظ بهجةً.

أخذت النوافذُ ترتفعُ قليلاً ليتسلل عبرها ضوءٌ برتقاليٌ كأنه وصل إلى الطائرة تواً، ضوءٌ راحَ يصبغُ الوجوهَ الناعسةَ والمتعبة، وتلك التي استفاقت من نوم متقطع. شعرتُ بحركة استيقاظ سلمى، رفعتْ رأسها عن كتفي، ثم قالت لي وهي بين النوم واليقظة:

- صباح الخير، لم أكن أعلمُ أنني نمت هكذا، أشعرُ بخدر في رقبتي.. هل نمت أنت؟

أجبتها وأنا أرتبُ أشياءَ كثيرة تكوّمت أمامنا:

- بقيتُ مستيقظاً طوال الوقت، قرأتُ قليلاً وأعدتُ مراجعة بعض الأوراق... أتمنى أن تكوني نمت جيداً، هل أطلب لك قهوةً؟

أجابت وهي تمسح بقايا النوم عن عينيها، وتراقبُ من نافذة الطائرة غيوماً بيضاء كثيفة بدت وكأنها تشاركنا أول الصباح:

- أجل سيكون هذا رائعاً.

- حسناً سأطلب كوبين من القهوة... لا.لا. دعيني أذهب وأحضرهما بنفسي لأنني أحتاج أن أمشي قليلاً.

سألتني كمن يعتذر عن شي اقترفه:

- هل أتعبتك طريقتي في النوم؟

أجبتها نافياً:

- لمَ تقولين هذا! لقد كنت في غاية الراحة وأنت تسندين رأسك إلى كتفي.

تركتُ مقعدي وتوجهتُ لإحضار القهوة، بينما لملمتْ سلمى ما تناثرَ أمامها من أشياء، راحت تعدّلُ تسريحة شعرها، وتداعبُ طفلاً أشقر أطل برأسه من مقعد أمامها. كنا حينها في المرحلة الأخيرة من الرحلة، عدتُ بالقهوة مسرعاً استعداداً لهبوط الطائرة، ثم رحنا ونحن نرشفُ القهوةَ نتابع هبوط الطائرة التي كلما هبطتْ، بدأت تضاريس الأرض تبدو من نافذتها أكثر وضوحاً، هنا بيوتٌ وجسورٌ وشوارع وغابات وحركة سيارات في كل الاتجاهات.. ونهر يتلوّى كمن يرقص على أنغام مزمار.

خلال عملية الهبوط بدا الكلُّ مشغولاً في التأكد من وضعية المقاعد، واتباع التعليمات التي يحرص المضيفون على تكرارها على مسامع المسافرين، إنها اللحظاتُ التي تتبدلُ فيها الملامح، ويعلو الوجوهَ خوفٌ حقيقي تثيره أصوات المحركات، وتسللُ صداع مفاجئ إلى الرأس، فهبوطٌ من علوٍ شاهق كهذا أشبهُ باستيقاظ مفاجئ من نوم غير هانئ، لا تدري عندها ماذا يدورُ في رأسك من ألم وهواجس، وانتفاخ يظل يشتد كلما اقتربت من الأرض أكثر.

هبطت الطائرةُ على مهل، واستقرت على أرض المطار كطائر أسطوري ينفث الهواء من تحت جناحيه، وهدأت مع صمت محركاتها نفوسٌ خائفة وقلقة. كان هبوطاً هادئاً قابله الركاب بتصفيق وراحة، ثم حركة دائبة لتجميع الحقائب المتناثرة والتأكد من لملمة كل الأغراض قبل الخروج. تحرك المسافرون في طابور طويل كلٌ يحمل حقائبه وأحلامه وآماله، وتوزعوا عبر عدة بوابات.. في حين اتجه الباقون ونحن منهم إلى شبابيك الجوازات استعداداً للخروج من المطار.

في المطارات، لا تدري لماذا يزدادُ إيقاعُ النبض لديك، أهي حركةُ الطائرات أم الزحام والإرهاق؟ أم كثرة الوجوه التي تطالعك؟ أتراها رهبةُ التفتيش وإجراءات الأمن؟ ربما... لكنه المطار.. ذاك المكان الذي تتقاطع فيه الأزمنة، ويتبدل فيه عليك التوقيت والوجهات، ولا تعلم لماذا تصبح عندها حركات الناس وتصرفاتهم مثار نقدك دون أن تشعر.

في مطار شارل ديغول بدا كلُّ شيء مألوفاً لدي، فقد تجولتُ في مطارات العالم سنوات طويلة، كما سبق لي التوقف مرةً في المطار ذاته خلال سفري للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، كان عبوراً من بوابة لأخرى ولم أخرج حينها من المطار، على الرغم من أنني كنت أمنّي النفس بذلك، فمنذ أن لاحت أمامي فرصة الدراسة في أمريكا، وأنا أسافر سنوياً فأقلع من مطار وأحط في آخر، وأشعر في كل مرة بزهو وسعادة التجربة الأولى.. ولم يعكر صفو تجاربي وذكرياتي سوى حادثة واحدة في مطار ديترويت، حادثة كادت أن تعصفَ يومها بمستقبلي برمته، وتأخذني إلى عوالم لا يدري أحد أين يمكن أن تستقر بي، كانت تجربة مريرة لكنها مرّت بكل ما حملت حينها من توتر وقلق.

يومها وبعد العودة إلى أمريكا من إجازة الصيف، كان موظفو مكتب خدمات الهجرة والجنسية يدققون في جوازات سفر الركاب وتأشيراتهم عند باب الطائرة. كان هذا أمراً مفاجئاً لجميع الركاب الذين اصطفوا في طابور طويل، وعندما جاء دوري للتفتيش، نظر الضابط في وجهي مطولاً، ثم طلب مني الوقوف جانباً والدوران للخلف، بعد ذلك قام أحد الموظفين بتقييد يديّ أمام الركاب لأسباب أمنية كما ادعى، اقتادوني بعدها إلى غرفة داخلية، وعندما سألتهم ما الذي يجري بالضبط، رد أحدهم:

الصفحات