كتاب " بالأمس كنت هناك " ، تأليف زياد أحمد محافظة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب بالأمس كنت هناك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

بالأمس كنت هناك
تنهدتُ بحسرة وقلت:
- لم أغادر مكاني هذا، لكنني كلما سافرتُ وزرتُ مكاناً جديداً أتحسرُ على ما نحن عليه، وأفكرُ في ما وصل إليه حالنا، وأتساءل لعلي أجدُ جواباً واحداً يفسرُ ما نحن عليه من إحباط وسوداوية.
ردت لتطردَ عني سحابةَ تشاؤم:
- لم أعهدك متشائماً هكذا.
أجبتها كمن نفضَ يديه من موضوع ما:
- لستُ متشائماً بطبعي وأنت تعرفين ذلك، لكني أعيشُ واقعنا بكل ما يحمل من ألم ومرارة، تعبتُ من البحث عن أشياء إيجابية، لا تستغربي إن قلت لك بأنني لم أعد أرى في الأفق أي أمل.
وصل النادلُ يحمل أطباق العشاء وراح يصفّها على الطاولة بعناية؛ كانت رائحةُ الخبز شهية وكأنه خرجَ تواً من الفرن، طبقُ السَّلطة كان يحوي أصنافاً عديدة من الخضار الطازجة التي امتزجت مع خليط الزيت والليمون، أما رائحةُ الأطباق ومذاقها وهي تغرقُ في سيل من الصلصات والتوابل والأعشاب البرية فلا سبيلَ لمقاومتها.. سألني النادل بأدب بعد أن وضعَ الأطباقَ أمامنا بطريقة جميلة: هل تريدون شيئاً آخر؟ أجبتهُ وأنا أستعجلُ ذهابه: كلا لكن سنناديكَ إذا احتجنا إلى شيء.
في الحقيقة لم أرغب في أن نواصل حديثنا عما وصل إليه حالنا، على الرغم من أن هذا الموضوع بكل ما يحمل من منغّصات، أصبح واحداً من الأحاديث التي اعتدتُ نقاشها مع سلمى، ونقاشها باستفاضة أيضاً مع زملائي الأساتذة وطلابي في الجامعة، ولم أكن لأتوخى الحذرَ مؤخراً لولا سعي إدارة الجامعة للتعميم على الأساتذة بتجنب الخوض في النقاشات السياسية في الصفوف. في واقع الأمر لم أفهم أنا وكثيرٌ من الأساتذة ذاكَ التوجه القمعي الذي قامت به الجامعة التي راحت تمارس السلطة الأبوية، لتفرض على طلابها وأساتذتها ماذا يقولون وكيف يفكرون؛ كنتُ أظنُ أن الجامعات ملاذ للتفكير الحر، ومحطة لتهيئة عقل الشاب وإنضاجه، لكني وجدتها مع مرور الوقت معقلاً آخر من معاقل السلطة، تزرع فيها ما تشاء.
ما زلتُ أذكرُ ذاك النهار الذي تطورَ فيه نقاشٌ سياسي حاد بيني وبين أحد الأساتذة، كنا وقتها عائدين إلى الكلية من مسيرةٍ صامتةٍ نُظّمت في الجامعة.. مسيرة صامتة!! لستُ أجدُ سُخفاً أكثر من ذلك، كيف يصبحُ الصمتُ وسيلةً للتعبير عن غليان حقيقي! حين تريدُ أن تُخرجَ أحشاءكَ احتجاجاً ورفضاً لما يجري، ثم تحاولُ بكل انضباط أن تقنعَ نفسكَ أن الصمتَ أرقى وسيلة للتعبير.. لعل الأسخف من ذلك هو حين تُقنعُ ذاتكَ بأن أقصى ما يمكن أن تفعلهُ هو أن تحرق علماً.. أو شمعةً مقابلَ وطن يضيع، أن تشعرَ أن بطانيةً بالية، أو قطعةَ قماش مستعملة تتبرعُ بها، قد تكفي لتستر ضعفك وخنوعك وانكسارك.
كنا يومها مجموعة أساتذة نتحدثُ في استراحة الكلية عن الحاجة إلى المزيد من الحرية والديمقراطية، كنتُ أتحدثُ بهدوء وتلقائية عن أهمية أن تقفَ السلطةُ ولو مرة واحدة في الصف نفسه الذي يقف فيه الشارع، أدعو لأهمية المشاركة في صنع القرار وعدم احتكاره من قبل جهة واحدة، كنتُ أستهجنُ وأتساءلُ أيضاً عن مبررات استماتة السلطة وأجهزتها في التحكم في مفاصل الحياة كافة، وأتمنى أن نصلَ إلى اليوم الذي تتقلصُ فيه أذرعُ الدولة لمصلحة المجتمع ومؤسساته المختلفة.. أثناء ذلك احتدَّ زميلٌ لي فجأة، علا صوتهُ وراح يتهمني أمام من كانوا في تلك الجلسة بأنني أعمل ضد مصلحة الدولة، وبأنني أطرحُ أجندات خارجية وغيرها من تلك العبارات المجمدة التي يقذفونك بها حين تصل معهم إلى طريق مسدود. لستُ أعلمُ منذ متى أصبحت الديمقراطية تقفُ في صف مضاد للسلطة! لم أكن أعلمُ أن نشدان الحرية سيصبحُ يوماً ما تهمة تطاردكَ أو لعنة تصيبك فلا تجد منها فكاكاً.
كان وصول النادل حاملاً أطباق العشاء، فرصة لتغيير جو الحديث الملبد الذي لا أعرف كيف بدأته مع سلمى، لذا حاولتُ أن أخرجَ على الفور من هذه المواضيع القاتمة التي نهرب منها إليها. اقترحتُ أن نفكر في أيامنا المقبلة وكيف سنمضيها باستمتاع، خصوصاً أنني سأكون خلال الأيام المقبلة مشغولاً ومرتبطاً بعملي مع الشركة، بعدها سأتحرر من التزاماتي وسأكون متفرغاً لسلمى تماماً. سألتها بعد أن انتهينا من العشاء:
- أرى أن نبدأ صباح الغد جولتنا الأولى، نتعرف إلى باريس بشكل عام قبل أن أبدأ بعد غد برنامج عملي معهم فما رأيك؟
قالت وهي تتدفأ على الشمعة التي تتوسط الطاولة فينسلّ ضوءٌ خافت من بين أصابعها:
- هذا ما أفكرُ فيه أيضاً، فيوم غد نقومُ بجولة عامة ونترك تفاصيل الأماكن حتى انتهائك من التزاماتك العلمية.
بعد أن تناولنا العشاء سرنا قليلاً دونما وجهة محددة، عدنا بعد ذلك باتجاه الفندق.. فالمشي من أحب الطقوس لدينا.. وهو ختامُ معظم نهاراتي مع سلمى، كما أن الفندق لم يكن بعيداً عن المكان الذي كنا قد وصلنا إليه. حين دخلنا الفندق، كان ثمة رجلٌ في البهو ينتظر قدومنا، كان يبدو عليه الضجر من طول الانتظار، تقدم منا بثقة وسلّم علينا، ثم عرّف بنفسه، وهمس لي: