كتاب " بالأمس كنت هناك " ، تأليف زياد أحمد محافظة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب بالأمس كنت هناك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

بالأمس كنت هناك
- هنالك أمرٌ ما في صلاحية تأشيرة الدخول الخاصة بك، ونريد أن نتأكد من أشياء أخرى.
توجستُ خيفةً قبل أن أرد:
- ماذا تقصد بالضبط، إنها تأشيرة دراسة طالب وهي صالحة لمدة سنتين قادمتين.
رد بتذمر:
- أعلم هذا جيداً، لكننا نريد أن نستوضح عدة أمور أخرى قبل السماح لك بالدخول، تفضل معنا والتزم الهدوء لو سمحت.
خلال السير نحو الغرف الداخلية انضم إلينا اثنان من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، وبدأوا بسؤالي مرة أخرى عن المدعو جمعة الدوس، وهو الشخص نفسه الذي كانوا قد سألوني عنه في المرتين السابقتين اللتين حقق فيهما عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي معي. كنتُ مضطرباً وقبل أن أبدأ بالإجابة عن أسئلتهم طلبتُ أن يحضرَ التحقيق معي محام، فزجرني أحدهم قائلاًً بأنه لا يحق لي ذلك، لأنني لم أدخل الأرض الأمريكية بعد.. تلك الحادثة بتفاصيلها المزعجة، وما تلاها من تطورات، كنت أظنها قد أصبحت ذكريات لا أودّ حتى استرجاعها، لكن من يا ترى يملكُ القدرةَ على تصنيف ذكرياته ليخفي بعضها ويسترجع الأخرى متى شاء!
لكن على الرغم من أن تلك الحادثة تغافلني في أي مطار أصل إليه، إلا أنني حافظتُ على طقس السفر، لما يشكلُ لدي من متعة لا تضاهى. سافرتُ مع سلمى مراتٍ كثيرة، إجازات ورحلات حرصنا على القيام بها متى تمكنا من ذلك، مع سلمى ليس السفر بحد ذاته تجربةً مثيرةً، بل الحياةُ برمتها أيضاً؛ هي تستطيع أن تبدل أوقاتي كلها في لحظة، وتلوّن تفاصيل يومي بكل الألوان، لا يكفي أن أكون معها بل أحب أن أعيشها في كل مكان وأن أبقى في محيطها ودفئها وكلماتها.
سلمى التي التصقت في وجداني منذُ أول مرة رأيتها فيها، لا تزال كما عرفتها وعشقتها، تشكلُ لي عالماً متكاملاً من الحنان، تمدني بسحر أنثوي فريد. أذكرُ حين اشتبكت عيوننا لأول مرة في ذاك النهار الربيعي المشمس، أحسستُ بعاصفة تدبُّ في كياني.. شعرتُ بنبضة خجلى ارتعشت معها كل خلية من خلاياي.. رعشةٌ لا تزال تسري في جسدي حتى اليوم، وقتها أدركتُ ببساطة شديدة أنها الإنسانة التي أريد أن أقرأ معها صفحات هذه الحياة، وكل يوم يمر أزداد تعلقاً بها، وكل كلمة تكتبها أشعرُ بأنني أسمعها وأقرأها لأول مرة.
بعد أن انتهينا من إجراءات الدخول في المطار، حملنا أمتعتنا وتوجهنا نحو بوابة الخروج، عندها لامسَ وجهينا هواءٌ خريفي بارد رافقتهُ رعشة لا إرادية، هو الانتعاش الذي بدأ يأخذ دوره بعد رحلة طويلة ودرجة حرارة منضبطة، فلا أجملَ من الدقائق الأولى التي تقف فيها خارج بوابة المطار، إنها المشاهد التي تسرقُ من كل الوجوه الدهشةَ واللهفةَ وكثيراً من الأمنيات.. هي الدقائق التي تبدأ فيها متعة الاكتشاف وتبدأ معها الرحلة الحقيقية.
أمسكتُ يد سلمى وشددتُ عليها بحرارة، وباليد الأخرى دفعتُ عربة الحقائب وسرتُ أتفحص الوجوه التي تنتظر المسافرين عند بوابة الخروج؛ فحين تشعر أن الجميع ينظر إليك لا تملك عندها إلا أن تتفحص الوجوه كمن يبحث عن عزيز.
وقفنا برهة في الصف انتظاراً لركوب التاكسي والتوجه نحو الفندق؛ خلال ذلك كنتُ قد أخرجت عنوان الفندق الذي سنمكث فيه خلال إقامتنا في باريس، والذي كان سعيد اليابس قد زودني به قبل السفر. حين جاء دورنا، ركبنا التاكسي وتوجهنا إلى الفندق.. أثناء الطريق كنا نهمس أحياناً، وأحياناً أخرى نكتفي بالصمت والاكتشاف. وفي لحظة هدوء بينما توقفت السيارة لإشارة ضوئية حمراء، بادرنا السائق بلكنته المغاربية بالقول:
- هذي أول مرة تيجون باريس؟
فاجأنا حديثه، فردت عليه سلمى وهي تلتفتُ بكل اتجاه محاولةً اقتناصَ أكثر عدد من المشاهد في مخيلتها:
- نعم هذه أول مرة نزور باريس.
- وكيف تشوفونها؟ سألها مجدداً وهو يبتسم.
تابعت سلمى حديثها مع السائق الذي بادرنا بالسؤال بعد أن سمعنا نهمس بالعربية، ونتطلعُ في شتى الاتجاهات، أظنه أدرك أنها زيارتنا الأولى، أو ربما أراد أن يكسر بسؤاله ذاك تقليد سائقي التاكسي في الغرب، ويفتحُ البابَ لحديث عابر، يعرف أنه لن يدوم أكثر من مسافة الطريق للفندق. قلتُ في نفسي فليكسر كل التقاليد علّه يخرجُ نفسه من هذه السيارة التي حشر فيها نفسه طوال حياته، هذا الغريبُ الذي يوصل الناس إلى وجهاتهم كل يوم، دون أن يسأله أحدٌ عن وجهته، أو عن قبلته التي يتوجه إليها بعد عناء نهارات متعبة.. ربما يتوقُ ليتكلمَ لغةً طالَ عنها غُربةً! أو يودُّ لو يشارك بعضهم فرحته ومتعته، فهو أولُ من يمتص رحيق الدهشة من القادمين.. وهو الذي يعرف أكثر من غيره، أول الانطباعات وأصدقها.
قالت لي سلمى بعد أن انتهت من حديثها الخاطف ذاك:
- تبدو المدينةُ جميلةً.. إذا كان هذا الانطباع الأول فكيف سيكون عليه الحال حين نسير في الشوارع ونكون جزءاً من حركتها وصخبها حتى ولو لأيام!
أجبتها وأنا أشعر بتيار من الفرح يسري في جسدها كلما دخلنا المدينة أكثر:

