كتاب " بالأمس كنت هناك " ، تأليف زياد أحمد محافظة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب بالأمس كنت هناك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

بالأمس كنت هناك
يبدو أن هذا الأخير لا ينسى شيئاً، قلت لسلمى وأنا أتفقد الورود، فهو يتقنُ الاهتمام بالتفاصيل، ولقد بدا هذا واضحاً لي في كل مرة جرى فيها تواصل بيننا، وما حرصهُ على تقديم باقة ورود ترحيباً بقدومنا سوى دليل على هذا. لقد كانت الورود ندية للغاية فلم أستطع منع نفسي من قطف وردة حمراء ووضعها في شعر سلمى التي كانت قد أتمت إفراغ الحقائب وتعليق الملابس، والتحضير لحمّام منعش.
بعد ذلك الحمّام الدافئ الذي أزاح عن كلينا تعب السفر، جلسنا في الغرفة فترة من الوقت، ثم انطلقنا في مشوارنا المسائي الأول. قد يكون التعبُ رفيقك في مثل هذه الحالات، وقد يكون الكسلُ أقوى سطوةً منه، لكن من يا ترى يستطيعُ أن يمكث في غرفة فندق في أول أيامه في باريس! قد يتكالب عليك التعب والكسل لكن ليس باستطاعتك أن تقاوم لذة الخروج والتعرف على معالم المدينة وقراءة حكاياها ومخالطة ناسها.
حين خرجنا من باب الفندق، كان أول ما عشناهُ غروب يستعد للرحيل، شمسٌ تلملمُ خيوطها من كل الجهات، وتفرغُ قبل أن ترحل ما تبقى لديها من نور. أضواءُ المدينة بدأت تستعدُ للسهر وتتبارى فيما بينها بالألوان والحركات، وقرصٌ برتقالي اللون يصارعُ كي لا يذوبَ في الأفق المتخم بالزرقة، أما الغيومُ... فبيضاءُ كثيفة تسبح وحدها على استحياء.
أمسكتُ يد سلمى وخرجنا من باب الفندق بزهو واشتياق من خبر المكان وزاره من قبل. يميناً.. يساراً لا يهم فأيُّ اتجاه يفي بالغرض؛ كانت الشوارعُ مزدحمةً بعض الشيء، سيارات تسيرُ ببطء ودراجات تراوغُ مسرعة، أشجار باسقة تقفُ بتراص فيما سقطَ قسمٌ كبيرٌ من أوراقها على يافطات المحلات ومظلات الشوارع، أشجار أخرى مربعة الشكل شذّبت بعناية فائقة، هواء خفيف يعبرُ بسرعة من شارع إلى آخر، وأرصفة ملأى بالمارّة لا يزيدُها اكتظاظاً أو يخففُ عنها سوى ما تقوم به فتحات المترو، فتبتلع دفعةً من المشاة تارةً، وتارةً أخرى تلفظُ وجبةً جديدةً من مرتادي ذاك العالم السفلي، طراز معماري فاتن يكسو واجهات المباني الملونة، أرصفة مكتظة بمقاهٍ باريسية جميلة.
مشينا فترة لا بأس بها، ثم توقفنا لنشتري كوبين من الشاي السّاخن ونكمل المسير. قلت لها وأنا أعطيها كوب الشاي: كأنني عشتُ هذا الطقس من قبل، ولعل هذه ميزة المدن الكبرى التي تراها وتسمع عنها وتعرف شوارعها وقصصها، وتتلذذ بحكاياها حتى قبل أن تزورها، أجابت وهي تمسك الكوب بكلتا يديها: لكن أن تقرأ عن المدينة فهذا شيء، وأن تعيش قصتها فذلك شيء آخر.
مشيت مع سلمى مسافةً تكفي لأن أقرأ السعادة في عينيها، بعدها كان علينا أن نرتاحَ قليلاً؛ توجهنا إلى مطعم يعجّ بالزبائن، وقد امتدت طاولاتهُ الخشبيةُ الملونة وكراسي القصب على طول الرصيف حتى أول الشارع.
كانت الطاولاتُ متلاصقةً إلى حد ما والمظلاتُ التي تغطيها توحي لك بأنك تحت قبة سماوية. أما المكان فكان مُسيجاً بشجيرات قصيرة يعبثُ بها هواء خريفي بارد. قلت لسلمى:
- أعرفُ أن الجوَّ باردٌ بعض الشيء لكن ما رأيك أن نجلس في الخارج؟
ردت وهي تشيرُ نحو طاولة متطرفة منحتها مظلةٌ حمراء دفئاً استثنائياً:
- المهم أن أكونَ بقربك، ورسمت على شفتيها واحدةً من ابتسامات المساء الساحرة.
جاء النادلُ مسرعاً حين لمحنا ننتظر من يُجلسنا، قفز نحونا بخفة وأزاحَ لنا كرسيين لنجلسَ عليهما ثم وقفَ بعيداً ليعطينا بعض الخصوصية.
سألتها وقد بدأنا نشعرُ بفارق التوقيت:
- هل أتعبتك رحلة الطائرة؟
ردت بحيوية:
- كلا، فقد نمتُ أثناء الرحلة فترةً لا بأس بها، ولعل هذا ما يمدني بالنشاط الآن.
- كان يجب أن نرتاحَ من الرحلة ونبقى في الفندق، لكن أيامنا محدودةٌ في باريس ولا نريدُ أن نضيعَ أي دقيقة دون الاستمتاع بها... ما رأيك أن نطلبَ العشاء، هل تودين شيئاً معيناً؟
هزت كتفيها وقالت:
- لاشي محدداً، دعنا نرى لائحة الطعام.
تقدم النادلُ بسرعة وأعطانا لائحة الطعام، ثم انحنى ليضيء شمعهً تتوسط الطاولة؛ كنتُ أشعر بجوع شديد فلم أتركه يغادر طاولتنا، بل اخترتُ مع سلمى أطباقاً تبدو شهيةً في الصور، وأوصيتُ النادل بسرعة تجهيزها، ثم رحت أتأمل المكان والشوارع وحركة الناس.
كان المكان حولنا هادئاً على الرغم من أنه مليء بالزبائن، رحتُ دون أن أشعر أراقبُ أولئك الذين يحاصرونني بعرقهم الأبيض وعيونهم الملونة وخطواتهم الواثقة، أتفرسُ في ملامحهم، في وجوههم اللامعة، في أناقتهم وانضباطهم وسرعة حركتهم، ضحكاتهم التي تطوف حولي، كؤوسهم التي سكبوا بها نبيذاً صافياً، شموعهم التي تتراقص حولي كأشباح، وعطورهم الهادئة التي تعبرُ تجاويفَ الأنف على مهل.
يحاصرني ذاكَ الغربُ الشاسع من كل اتجاه، يدعوني في كل مرة أزوره لمنازلة لا تحتملُ أكثرَ من طرح أسئلة، يستفزني وأنا أحاولُ أن أجيبَ نفسي عن أسئلة غدت لي رتيبة.. أحاولُ أن أسيطرَ على ذهني الذي راحَ يعقدُ مقارنات لم أكن أريدُ التفكير فيها في جلسة كتلك، أتحسرُ على ما وصل إليه حالنا، وكيف اتسعت الفجوة بهذا الشكل حتى أصبحَ التفكيرُ في عملية النهوض أمراً محبطاً، كيف أننا لانزال حتى اليوم نكافحُ أمراضاً تستشري بدل أن تتلاشى.
المستقبل وأسئلته الملحة هما أكثر ما يقلقني، كيف نتصالحُ مع أنفسنا؟ كيف نفكرُ في غدٍ أفضل؟ وكيف نتشاركُ في صنع مستقبلنا الذي لا نعرف حتى شكله أو مصيره؟ راحَ ذهني أبعد من ذلك بكثير، ولم يقطع عليّ شرودي ذاك سوى رغبة سلمى في استعادتي من جديد. قالت لتقطعَ عليَّ صمتاً سرقني منها:
- يبدو أنها مدينةٌ لا تنام، فلم يمض على وصولنا وتحركنا عدة ساعات لكني أكاد أرى جمالَ الحياة في كل مكان. أضافت وهي تضعُ على كتفها شالاً أبيض أضفى عليها جمالاً أخاذاً: يبدو عليكَ الشرودُ فإلى أين وصلت؟

