كتاب " حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة " ، تأليف منير غبور / أحمد عثمان ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
الذاكرة المفقودة
رغم أن مصر تمتلك تاريخاً طويلاً إلا أن ذاكرتها أصبحت قصيرة هذه الأيام. إذ يبدأ التاريخ المسجل في مصر منذ أن اخترع المصريون القدماء فن الكتابة الهيروغليفية. وحتى عهد قريب كان الاعتقاد السائد يذهب إلى أن السومريون الذين سكنوا جنوب العراق، سبقوا المصريين بقرن من الزمان في اختراع الكتابة، نحو ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد. وفي ديسمبر 1999م أعلن جانتر دراير - مدير معهد الآثار الألماني بالقاهرة - أنه عثر على مجموعة من الكتابات المنقوشة على قطع من العاج الصغيرة، يرجع تاريخها إلى حوالي ثلاثة آلاف و 300 سنة قبل الميلاد، أي قبل الكتابات السومرية بأكثر من مائة عام على الأقل. وجدت هذه الكتابات في مقبرة الملك عقرب الأول في أبيدوس بصعيد مصر.
وبالرغم من تاريخ مصر الطويل، يبدو أن مصر المعاصرة قد فقدت ذاكرتها، ومن الغريب أن المصريين في عصرنا الحديث لا يعلمون شيئاً عن تاريخهم القديم. فالطلاب المصريون لا يتعلمون سوى القليل من التاريخ القديم لبلادهم، أقل بكثير مما يتعلمه الطالب في مدارس الدول الغربية. فطلاب مصر لا يعرفون شيئاً عن الكتابات الهيروغليفية أو القبطية لآداب بلادهم الغنية قبل استخدام الكتابة العربية منذ القرن الميلادي السابع. وبالنسبة إلى غالبية المصريين، تعتبر الآثار القديمة والمتاحف التي تحتويها بمثابة مزارات للسياح فقط، وليست لهم. وأذكر أن الكاتب يوسف السباعي - الذي أصبح وزيراً للثقافة أيام الرئيس جمال عبد الناصر - كتب مرة في مجلة آخر ساعة يعتذر عن عدم زيارته للشاعر السوري نزار قباني بفندق هيلتون النيل، قائلاً إنه لم يتمكن من زيارة المتحف المصري القريب منه، نظراً إلى ضيق وقته.
عندما فقدت مصر ذاكرتها التاريخية، لم تعد البلاد قادرة على إدراك هويتها الحقيقية. فمن نحن؟ هل نحن سلالة الفراعنة الذين حكموا مصر القديمة؟ هل نحن من أبناء المصريين القدماء من الأقباط؟ هل نحن عرب أم مسلمون أو شىء آخر؟
وترجع أسباب فقدان الذاكرة المصرية إلى سببين رئيسيين: السبب الأول هو تحطيم مكتبة الإسكندرية في 391 للميلاد وإحراق حوالي نصف مليون مخطوط بها، مما أدى إلى ضياع الذاكرة المكتوبة لمصر الفرعونية. أما السبب الثاني فهو فقدان مصر لكيانها السياسي المستقل وخضوعها لكيانات سياسية أجنبية حوالي ألفي عام: الرومان، البيزنطيون، العرب، الفاطميون، العباسيون، الأيوبيون، المماليك، والعثمانيون ثم الاحتلال الفرنسي والبريطاني.
في اعتقادي أن ضياع الذاكرة التاريخية لمصر هو السبب الرئيسي لعدم قدرة مصر على التعلم من ماضيها حتى تعيد بناء كيانها، وتنضم إلى العالم الحديث. فحتى يمكن للبلاد أن تدرك هويتها الحقيقية، لا بد لها أولاً من استعادة ذاكرتها المفقودة؛ فالنهضة المصرية - رينيسانس - تتطلب العودة إلى الجذور الثقافية، قبل حوالي خمسة آلاف عام، وبينما كانت النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر تمثل ارتباط أوروبا بتاريخها الكلاسيكي القديم، فإن النهضة المصرية تتطلب الارتباط بتاريخها القديم.
ولدت مصر الحديثة مع وصول الحملة الفرنسية إلى أبو قير - شرقي الإسكندرية - عند نهاية القرن الثامن عشر، بقيادة نابليون بونابارت. ورغم أن الاحتلال الفرنسي لمصر لم يدم سوى ثلاث سنوات فقط (1798 - 1801)، فقد ساعد الشعب المصري بعد ذلك على التخلص من المماليك الذين اضطهدوهم. ومع الأسلحة والذخائر التي أتى بها جيش نابليون، أحضر بونابارت معه آلة للطباعة العربية وأكثر من 160 عالماً لتسجيل تاريخ مصر القديم، وكانت نتيجة دراسات هؤلاء العلماء الفرنسيين كتاب "في وصف مصر" الذي صدر بالفرنسية عام 1801م في عشرين مجلداً وأيقظ العالم على روعة حضارة أجدادنا.
وبعد هزيمة المماليك وطرد الفرنسيين، جاء محمد علي من ألبانيا مع الجيش العثماني ليملأ الفراغ، وسرعان ما تمكن محمد علي من تكوين قاعدة مصرية محلية للسلطة، من زعماء الفلاحين والموظفين وتجار القاهرة الأغنياء. وعندما اختار الزعماء المصريين محمد علي ليكون حاكماً لهم، اضطر الباب العالي قبوله والياً على مصر. وبعد حوالي 18 قرناً من فقدان الكيان السياسي المستقل، استطاع محمد علي انتزاع البلاد من الدولة العثمانية، لتعود دولة ذات سيادة مستقلة. كما قرر محمد علي تحديث مصر على الطريقة الغربية، وأعاد تنظيم اقتصادها الزراعي. وللمرة الأولى منذ نهاية حكم الفراعنة، جند محمد علي الصعايدة المصريين في جيشه الجديد، وعهد بتدريبهم إلى الكولونيل الفرنسي سيف الذي عرف باسم سليمان الفرنساوي، وتم تنظيم الوحدات العسكرية على أساس النظم الأوروبية الحديثة. وساعد تنظيم التجارة والجيش على تحديث مشروعات مختلفة، مثل المؤسسات التعليمية والمستشفيات وإنشاء الطرق وحفر الترع، إلى جانب إنشاء المصانع التي تمد الجيش بالملابس والذخيرة، وكذلك بناء السفن.
وكما استعان محمد علي بالفلاحين المصريين في بناء جيشه الجديد، فقد استخدمهم كذلك في إعادة بناء اقتصاد البلاد وإدارتها؛ لهذا احتاج الوالي مصريين متعلمين لإدارة دولته وبناء النظام الصناعي الحديث. في تلك الحقبة من القرن التاسع عشر، كان الأزهر هو المؤسسة التعليمية الوحيدة في مصر، يقوم بتدريس اللغة العربية والمواد الشرعية؛ فأرسل محمد علي بعض خريجي الأزهر إلى أوروبا - وخصوصاً فرنسا - لتلقي العلوم الحديثة، ثم أقام نظاماً جديداً للتعليم في مصر لتدريس المواد العلمية الحديثة للشباب. نتج عن كل هذا ظهور جيل جديد من المصريين المتعلمين، الذين عملوا بعد ذلك على تجديد الثقافة المصرية وتحديد الهوية المصرية. كان رفاعة رافع الطهطاوي واحداً من هؤلاء الرجال، وأصبح من أهم قادة الحركة التعليمية خلال المرحلة الأولى للتحديث، حيث تولى ترجمة العديد من الكتب الأوروبية. وساعدت أعمال الطهطاوي الأجيال التالية من المصريين في التعرف إلى الفكر الغربي وإدراك مفهوم الوطنية المصرية.
في النهاية وقعت الدول الأوروبية اتفاق لندن سنة 1840 الذي منح محمد علي باشا حكماً وراثياً لمصر، وأخرج البلاد من سلطان الدولة العثمانية، وإن ترك للباب العالي مظهراً صورياً من الولاية. كانت نتيجة انفصال مصر عن الإمبراطورية العثمانية استعادة المصريين لشعورهم القومي وإدراكهم أنهم ينتمون إلى دولة خاصة بهم ولم يعودوا جزءاً من كيان سياسي آخر. إلا أن الدولة المصرية الوليدة سرعان ما سقطت تحت الاحتلال العسكري البريطاني في 1882، ثم صارت محمية بريطانية على أثر نشوب الحرب العالمية الأولى في 1914. ومع هذا - رغم وقوعها تحت الاحتلال البريطاني - استمرت عناصر القومية المصرية في النمو ونحت نحواً ديموقراطياً فتم وضع دستور للبلاد نتج عنه تكوين برلمان منتخب يمثل الشعب كان بداية مسيرة الطريق الديموقراطي.